الناتو: الذراع العسكرية للأمم المتحدة د, عبد الله فهد اللحيدان |
يبدو أن دول الناتو تحضر حالياً لشن الهجوم البري لإجبار يوغوسلافيا على الانسحاب من كوسوفو وتأمين عودة اللاجئين المسلمين الى هناك، ويأتي هذا التحضير بعد فشل الغارات الجوية في اجبار الرئيس اليوغوسلافي سلوبودان ميلوسيفيتش على قبول الانسحاب من كوسوفو وقيام حكم ذاتي في ذلك الاقليم مع تواجد عسكري دولي بقيادة الناتو، وقبل بدء الغارات الجوية كانت الجهود الدبلوماسية قد فشلت في إقناع صرب يوغوسلافيا بقبول الحل الدبلوماسي التوفيقي او ما يعرف باسم اتفاقية رامبوييه, وقلنا في مقال سابق: ان فشل الجهود الدبلوماسية الغربية بقيادة الولايات المتحدة في كوسوفو ونجاحها في البوسنة يعود الى ان مسلمي البوسنة استطاعوا الصمود وتحرير اكثر من ثلثي البلاد امام الغزو الصربي الآثم, وهذا الصمود أقنع الصرب بضرورة القبول بحل وسط تمثل في اتفاقية دايتون, اما في كوسوفو فكانت قوات جيش تحرير كوسوفو ضعيفة التسليح لدرجة جعلت الصرب لا يقتنعون بالحلول الوسط، وكان الاولى في نظري لإقناع الصرب بالحلول السلمية زيادة قوة جيش تحرير كوسوفو منذ بداية الأزمة وبالتحديد منذ قيام الصرب بالعديد من الاعتداءات في السنتين الاخيرتين، فلو وجد جيش تحرير كوسوفو الدعم العسكري والمالي لوجد الصرب أنفسهم مضطرين لقبول الحل الدبلوماسي, لقد فضلت دول الناتو تولي مسؤولية البوليس الدولي بدلاً من امداد المظلومين بالسلاح ولو بكميات محدودة تساهم في اقناع الصرب بالحلول الدبلوماسية, ويبدو ان القادة الصرب بعقليتهم القديمة وسوء حساباتهم تصوروا ان دول الناتو لن تقوم بشن حرب من اجل نصرة المسلمين, والحقيقة ان هذه الحرب رغم ان لها دافعا اخلاقيا واضحا الا انها لا تخلو من دوافع اخرى من وجهة النظر الاستراتيجية لدول الناتو, فالصرب ينتمون الى العرق السلافي وهو العرق الذي ينتمي إليه اغلبية السكان في روسيا الاتحادية وروسيا البيضاء، ومسمى الدولة اليوغوسلافية يتكون من مقطعين يوغ ويعني الجنوب وسلافيا اي دولة السلاف الجنوبيين او سلافيا الجنوبية، ثم انهم ينتمون من الناحية الدينية الى الكنيسة الشرقية الارثوذكسية والتي يعتبر مركزها الديني موسكو, ثم ان النخبة الحاكمة في يوغوسلافيا لا تتناسب مع المعايير الغربية الليبرالية والديمقراطية, كما ان دول الناتو تحرص على إقامة حاجز Buffer Zone بين دولها ومناطق نفوذها وبين هذه المناطق الشيوعية السابقة التي لم تقم فيها حكومات قوية ومستقرة وليبرالية, لذلك دعمت دول الناتو اقامة جمهورية البوسنة المسلمة لتكون منطقة عزل بين كرواتيا الكاثوليكية في الغرب ويوغوسلافيا التي يسيطر عليها الصرب الارثوذكس في الشرق, وهي تحرص حالياً على بناء اقليم كوسوفو كمنطقة عزل بين صربيا من جهة ومقدونيا والبانيامن جهة اخرى، لذلك صاغ الوسيط الغربي مقترحات رامبوييه لتخدم هذا الغرض ويمكن ملاحظة ذلك بالنظر الى النقاط التي تنص على انسحاب القوات اليوغوسلافية من كوسوفو ودخول قوات دولية بقيادة الناتو لضمان الحكم الذاتي للاقليم, واذا كانت البوسنة المسلمة منطقة عزل بين صربيا الارثوذكسية وكرواتيا الكاثوليكية فإن كوسوفو منطقة عزل بين الصرب السلافيين وسكان مقدونيا الاغريق اليونانيين ارثوذكس وسكان البانيا المسلمين وباقامة مناطق العزل هذه يضمن الغرب استقرار الاوضاع في البلقان وبناء مناطق نفوذ جديدة ويضمن كذلك امن اوروبا الغربية التام والمؤكد.
ولا تنس ان حلف الناتو قد توسع مؤخرا ليضم بولندا والمجر وتشيكيا جمهوريات شيوعية كانت اعضاء في حلف وارسو سابقاً وعلى المدى البعيد يفكر قادة الحلف بضم اوكرانيا او دول البلطيق وهي جمهوريات سوفيتية سابقة الى الحلف وبذلك تصبح روسيا تحت رحمة الناتو تماماً, كما يعلن بعض المفكرين الغربيين امكانية توسع الحلف الى داخل قارة آسيا من خلال تركيا ثم جمهوريات وسط آسيا السوفيتية سابقا وبذلك يستطيع الحلف التحكم تماماً بمجريات الاحداث حتى في الصين والهند والعالم الاسلامي, وهذه المناطق الثلاث مرشحة بطريقة او بأخرى لمنافسة الغرب في المستقبل البعيد.
ان دول الناتو تحاول ان تكون الذراع العسكرية للأمم المتحدة أو اذا شئت ان تصبح الأمم المتحدة المكتب السياسي لدول الناتو, فمن خلال الأمم المتحدة تستصدر دول الناتو قرارات تصطبغ بصفة الشرعية الدولية، ثم يقوم الناتو بتطبيق تلك القرارات من الناحية العسكرية والتنفيذية، وقد أعلن سكرتير الأمم المتحدة كوفي عنان ان العمليات التي يقوم بها حلف الناتو شرعية من الناحية الدولية لأنها ضرورية لتطبيق قرارات مجلس الامن فيما يخص النزاع في كوسوفو, وهذا يعني ان كل قرارات الأمم المتحدة تبقى حبراً على ورق الا تلك التي تقتنع دول الناتو بمنطلقاتها الاخلاقية والسياسية والعسكرية, لقد تفكك الاتحاد السوفيتي في 1991 وكانت تلك نقطة تحول مهمة في التاريخ وقد استطاع الغرب ادارة الشؤون الدولية منذ ذلك الوقت لتعزيز انتصاره في الحرب الباردة وبعد نهاية الحرب الباردة وتفكك حلف وارسو نادى بعض المفكرين الغربيين وخصوصاً الاوروبيين بحل حلف الناتو وبأن يكون هناك ذراع عسكرية جماعية لدول الاتحاد الاوروبي ولكن البعض الآخر اكد على العوامل المشتركة التي تجمع اوروبا الغربية وامريكا الشمالية وضرورة استمرار حلف الناتو ليقوم بمهام جديدة تثبت انتصار الغرب في الحرب الباردة وتحمي اوروبا والغرب من اي مصادر قلق على النفوذ الغربي قد تأتي من الصين او الهند او العالم الاسلامي.
ذكرنا في بداية المقال ان دول الناتو تحضر الآن لشن هجوم بري لكن اذا قام ميلوسيفيتش بقبول الحل الدبلوماسي ورضي بسحب القوات اليوغوسلافية من كوسوفو ودخول قوات دولية بقيادة الناتو الى ذلك الاقليم فسيكون هذا أفضل لأنه يضمن للغرب عدم وقوع اي خسائر بشرية تحرج الحكومات الغربية امام شعوبها, اما إذا لم يقبل ميلوسوفيتش بالانسحاب من كوسوفو فالهجوم البري سيقع ولا أعتقد ان الخسائر البشرية ستكون ذات بال بالنسبة للناتو لأن القوات المعادية قد ارهقت تماماً من خلال اكثر من اسبوعين من القصف الجوي الذي دمر البنية التحتية ومراكز القيادة اليوغوسلافية، ثم قيام طائرات الاباتشي العمودية من ارتفاعات جوية قريبة جداً للارض بمسح وضرب قوات العدو قبل دخول القوات البرية, لكن يبقى السؤال هو الى اي مدى سيصل الزحف البري: هل الى تحرير كامل اقليم كوسوفو او سيكتفي بتحرير اغلب الاقليم 70 - 80% وبقاء الجزء الشمالي والعاصمة برشتينا تحت سيطرة القوات اليوغوسلافية مما يعني ان دول الناتو قد قبلت بشكل واقعي تقسيم كوسوفو وان كانت لم تقبل به من الناحية النظرية.
|
|
|