قواسم مشتركة تجمع بين معظم الاعمال التي قرأتها للاديب/ الشاعر السعودي المتميز مصطفى محمد السدحان، في مقدمتها الميل- حد العشق- الى التصادم مع المألوفية واختراقها والاقتراب - حد التماس- من الخطوط التي قد يحترف غيره الالتفاف حولها او التحليق فوقها على اجنحة الرمز البعيد او الاغراق في الضبابية والالغاز, وكل ذلك يقود الى احداث صدمة فنية لدى المتلقي فيترك في ذاته دوامة من الدهشة ولذة كشف الغامض- ليس الملغز- فاغراً فاه تجاه ذلك المبدع الذي يمرق بإبداعه مخاطراً خارج دائرة الزمان والمكان, مخلفاً وراءه من مثار النقع ما شاء ان يثير!
في ديوانه الشعري الاول (بنت الرياض) انطلق خلف المحاذير التي يلتف من حولها غيره وراح يعري خبايا المجتمع العربي، داخل اسواره وخارج تلك الاسوار، كأنه في مطاردة ساخنة لاتنفك تلاحق مثالبه اينما كان.
وفي مجموعته القصصية الجديدة (امرأة من الرياض) (*) - لاحظ تجاذب مفردات هذا العنوان مع مفردات عنوانه ديوانه (بنت الرياض)- لاينحرف (السدحان) عن المسار ولايحيد ولايخون ابداعياً رؤيته الكاشفة الجسورة غير هياب ولامتردد, والمجموعة التي لايزيد عدد قصصها عن ثلاث:,, الأقط، وربكة في المدينة، وامرأة من الرياض، التي وسم باسمها المجموعة، تجسد كل ذلك.
في القصة الأولى (,,الأقط)- وهواللبن المجفف - يرصد الكاتب بدء نشوء علاقة بين رجل وامرأة.
وهي علاقة مشوبة بكثير من الغموض، فالمرأة هي التي تبدأ مد جسور التواصل بينها وبين الرجل وفي الوقت ذاته لاتمنحه سوى القليل بل اقل القليل: مجرد كلمات هي علاقة تتأطر فيما يبدو في احتياج احد طرفيها الى (البوح) الى طرف آخر, اختراقاً لموانع اجتماعية وظروف خاصة تحاصرها، ولكنها لاتمنح اكثر من ذلك وهو ما يعطي القصة قدراً من الغموض والدهشة لدى المتلقي لانه كان ينتظر تطوراً آخر لهذه العلاقة اعتاد ان يسمع عنه او يلم به, ويحملنا الكاتب ايضاً على اجنحة فضول الرجل الذي حاول اقتحام حصون المرأة بعينيه في البدء وبالتواصل فيما بعد,, ولكنه لاينال سوى معرفة القليل عنها، فهي باخلة رغم قدرتها، مدبرة برغم ظروفها وفراغها,, وتنتهي القصة وهو لايكاد يكون متأكداً انها هي ذاتها التي سمع صوتها و صاحبة البوح عن جانب من ظروفها.
وفي قصة (ربكة في المدينة) تكاد في البداية تكون المدينة/ المكان هي البطل الحقيقي للقصة، بمناخها ومكيفاتها وسكونها، الا ان البطل الذي اطل علينا في مطلع القصة وعلى لسانه يحكي لنا عنها، جذبنا واغرقنا في احداث (كابوس) رآه فيما يرى النائم يدور حول المدينة التي رآها على شفا كارثة مروعة، وهذه الكارثة ماهي سوى وقوع (ربكة) في المدينة، انطلقت من شرارة شجار كبير وقع فجر يوم الربكة بين فئتين من شرق المدينة وغربها على حقوق شراء حمولة شاحنتين عبرتا الحدود تلك الليلة ووصلتا محملتين بالمواد الغذائية,, وتتطور الامور الى فئات اخرى، كل فئة لها موقع او مواقع ومنافذ وميليشيات,, كلها تتصارع على النفوذ وامتلاك المياه,, ويحملنا الحلم او الكابوس الى تفاصيل واحداث اخرى، لاتنتهي الا باستيقاظ بطلنا من نومه وقلبه محشور في حلقه والعرق يتصبب من جسمه!!,, والخيط الذي يمتد ما بين الحلم/ الكابوس والواقع المعاش، هو ما حمله الى بطلنا احد زملائه من بين اخبار الصباح في الصحيفة، اذ اخبره انه وقع شجار كبير فجر اليوم بين فئتين شرق المدينة وغربها !,, وهذا نفسه هو بداية الكابوس,, ترى هل سيتحقق الحلم او الكابوس؟ هل سيحدث بكل وقائعه واحداثه وكارثته؟ هل يسقط هذا الفصل مابين الحلم والواقع؟,, ينزعج البطل ويسارع الى النافذة المطلة على الشارع ويطمئن ان كل شيء طبيعي والحياة في المدينة تمضي كما اعتادها,, ويتاكد لديه ان الحلم حلم والواقع واقع, فتندفع من صدره دفعة واحدة مع انطلاق الهواء الحبيس:الحمدلله !
اما قصة (امرأة من الرياض) التي تحمل المجموعة اسمها عنواناً لها، فمحورها شاعرة تكون في البداية مركز حوار بين مجموعة من الصحفيين يبدون دهشتهم واستغرابهم من جسارة شعرها الذي تبعث به الى المحرر الذي راح يلقي على مسمع زميليه بعضاً من اشعارها:
لو القمر ملكي المضمون
عطيته حبيبي يتسلى به
ولو في يدي اقهر الفرعون
ملكته العرش واسبابه
الحب يا ناس لوتدرون
كله حبيبي يتهنى به
لعيونه المستحيل يكون
والصعب ما نحسب حسابه
وليس هذا قمة ما تصل اليه الشاعرة الجسورة، فهناك ابيات لها تتصادم مع المالوف مما يدفع المحرر المسؤول الى أن يهتف في وجهي زميليه :
ياوالله انهبلت سمراء اليمامة,,
وهذا هو اسمها المستعار الذي تنشر اشعارها به.
وهذا المشهد في احدى الصحف ماهو الا مقدمة يتبعها احداث لقاء بين المحرر وهذه المراة العشرينية التي ينحدر اصلها من جهة ابيها من بلاد القوقاز، اما جدتها لامها فقد كانت جارية حبشية، وهذا الاصل المزدوج يفسر للمتحاورين ولنا سر جمالها الاخاذ من جهة، وجسارة افكارها واشعارها من جهة ثانية، ثم من جهة ثالثة جسارتها في باريس ومبادرتها بمد جسر مع المحرر الذي قابلته هناك صدفة، والتقيا على حب الرياض التي فلسفت (سمراء اليمامة) رؤيتها لها بظواهرها وبواطنها انطلاقاًمن خبراتها الواسعة.
خبرات الكاتب وثقافته تتغلغل
في شرايين ونسيج قصصه
تتغلغل خبرات الكاتب وثقافته في شرايين ونسيج قصصه فتذكرنا دوماً بحضوره، مضافاً اليها استخدامه لضمير المتكلم في اسلوب الحكي، في قصتيه الاوليين، ففي القصة الاولى- ,, الاقط- يوظف معرفته بالفراسة ويجعلها احدى قدرات بطله حين يتفحص رفيق رحلته الذي يتعرف عليه لاول مرة في الحافلة: لفت انتباهي شاربه الانيق شديد السواد الذي اطلت شعيراته المتناسقة على شفتين ممتلئتين -ص(3), او تتبدى ثقافته الموسيقية حين يقرن بين جهاز التكييف والبشر ويشترك مع انفاسهم في عزف (رابسودي) هادىء ممل -ص(6)، اوثقافته الشعرية في قوله :اسئلتي ايضاً على قلتها كانت تعود باجوبة مراوغة مبهمة كقصيدة حداثية -ص(15)، وثقافته التاريخية :خيل اليها ان تجويف رأسه مليء بالحبال المشدودة من الجدار الى الجدار، تتدلى منها مخطوطات من عهد المماليك,, - ص(17)، ومعرفته بالعاب الورق: كانت مع الوقت قد تحولت بالنسبة لي ايضاً الى لعبة (سوليتير) تزداد متعتها كلما تعذر حلها , -ص(19), وكل هذه المداخلات التي تعكس ثقافات الكاتب طبيعية ولاتكلف فيها ذلك ان البطل تحتمل شخصيته كل ذلك فهو طبيب اخصائي نساء وتوليد والبطلة وصلت الى عتبة الماجستير, كما تتبدى الوان اخرى من الثقافات والمعارف التي يتمتع بها الكاتب ويسبغها على شخصيات قصصه وعلى البطل بصفة خاصة، كمعرفة الابراج والمدارات وصلتها بالمناخ في مستهل القصة الثانية (ص26)،وإلماحه الى (كوميديا دانتي)-ص(28)، وعلم النفس: تناغمت الحركة الاولى للسيمفونية مع حالة الميلانكوليا التي غمرتني واججت في نفسي حرقة الشعور بالوحدة -ص(29)، و (الميلانكوليا) Melancholy ومعناها السوداوية او الكآبة والنزوع الى الحزن والانقباض، فضلاً عن معرفة السيمفونيات وهي ثقافة موسيقية عالية، وكذلك معرفة بسيكولوجية الاشاعة : وبصرف النظر عن اسباب ظهور الشائعة فقد وجدت جواً مهيأ للانتشار وتحولت الى self - fulfilling prophecy ص(32)، اي القدرة على انتشار الاشاعة ذاتياً او تنبؤ الناس بوقوعها, وكل ذلك ايضاً يأتي بصورة طبيعية عن الشخصية دون تكلف اذ انه يعمل مخرج سينما وتلفزيون، ومن اللافت للنظر ايراد الكاتب لفقرات كاملة باللغة الانجليزية - ص(43)- إلا ان ذلك ايضاً يأتي في اطار طبيعي اذ يرد على لسان شخصيات اجنبية توجه كلامها الى اجانب، فلايعد هذا اقحاماً مفروضاً على القصة او شخصياتها كما لايمكن الزعم بانه نوع من الاستعراض اللغوي للكاتب, ولاشك ان هذا كله مما يثري النسيج القصصي ورؤى الشخصيات، وان كان من ملحظ على ظاهرة ايراد نص او جمل انجليزية كاملة لايقابلها ترجمتها بالعربية، فهو وضع اشكالية في مواجهة القارىء الذي تكون لغته الاجنبية غير الانجليزية- مثلاً: الفرنسية او الالمانية- او الذي لايجيد لغة اجنبية على الاطلاق، وهي اشكالية لم يضع لها الكاتب حلاً، بالاضافة الى ايراد مصطلحات لايعرف معناها سوى المثقفين، مثل (الميلانكوليا) التي غالباً ماتكون غيرمفهومة للقارىء العادي.
(*)امراة من الرياض، قصص قصيرة، مصطفى السدحان، الناشر: مؤسسة الوراق للخدمات الحديثة، عمان، الاردن,1998م.
|