بجماليون,, تراسل الأسطورة والقصيدة د, نذير العظمة |
تكتسب أسطورة بجماليون موقعا خاصا في اطار التراسل,, لقد حللنا ودرسنا حتى الان قصائد تتحول الى لوحات او لوحات تتحول الى قصائد من خلال مزاج المبدع ومخيلته لكننا في اسطورة بجماليون لا نشهد مثل هذا التحول,, والاسطورة ذاتها تتمركز في علاقة الفن، بالحياة والحياة بالفن لكنها لتعبر عن هذه العلاقة لابد للشاعر ان يرسم بالكلمات تمثالاً تدور عليه وحواليه معاني الاسطورة, (من اجل قراءة قيمة مقارنة لتحولات الاسطورة انظر المؤثرات الاجنبية في الشعر العربي المعاصر مهرجان جرش 1995 الفن والزمن تحولات بجماليون في الشعر العربي الحديث د, عبدالنبي اصطيف.
الفن يخلد تمثالا متساميا على الحياة متعاليا عليها مع انه يُستوحى منها واذا ما اراد هذا الفن ان يكون كالحياة فعليه ان يتخلى عن تساميه كما يتخلى عن خلوده,, ورأينا كيف استجابت فينوس بجماليون الفنان فجعلت تمثاله حيا يسعى في صورة امرأة يتزوجها بجماليون وتنجب له ولداً تخلى التمثال عن تعاليه وخلوده واصبح شيئا لاستهلاك الزمن خاضعا للحياة والتغير والموت.
واغلب النصوص التي استوحت الاسطورة هذه من شعرية وقصصية ومسرحية اختارت الفن او الحياة, اما المساومة بينهما فيلغي احدهما لحساب الآخر.
بجماليون توفيق الحكيم في المسرحية التي حملت أسمه يحطم التمثال لأنه على جماله وتساميه لا يصبح حياة.
بطل صادق هداية يطلق النار على امرأته التي احتلت محل التمثال الذي اراد منه هداية ان يحتفظ بتعاليه وحين فارق هذا التعالي واصبح حياة تتحرك في الواقع دمره بطل هداية باطلاق الرصاص عليه.
احمد زكي ابو شادي مؤسس حركة ابولو في قصيدته التي تحمل عنوان بجماليون ,, يحتفظ للتمثال بخلوده وتعاليه لانه يظل متساميا على الواقع وممتنعا على الفناء والموت:
من خيالي جبلت حسنك تمثالا فطافت حياله الاشياء
أتملاه في شخوصي واحلامي ومن غيره فؤادي براء.
يا مثاليتي التي لم تدنس بتشابيه كلها اهواء
والضياء الذي تشبعت منه غير دنيا ضياؤها ظلماء.
فتباعدت حينما انت للفن خيالي الوضاء.
لا التي يعشق الورى وهي منهم ويباهي بوصفها الشعراء.
فالتمثال الذي ينحته ابو شادي للحبيبة هو من صنع الخيال وهو المثالية التي لم يدنسها شيء من الحياة وتتعالى الى هذه المثالية - التمثال صبوات الشاعر الروحية وهي ضياء ليس من ضياء الدنيا المشبع بالاهواء؛ لذلك ظلت متباعدة خيالا للفن الوضاء بعيدة عن الورى وشاهقة في حلم الشعراء.
اما قصيدة علي محمود طه بعنوان (التمثال) فيظل الفن المجسد بالتمثال محتفظا بتعاليه في منزلة سامية لكنه ككل شيء في الحياة والطبيعة يخضع في نهاية المطاف الى الموت, ورغم انه يجسد حلم الانسان وقيمه لكنه لا يستحيل حياة حقيقية ويخسر وهم الخلود.
ومقدمة علي محمود طه النثرية للقصيدة تختزل ابعادها ومغزاها الاساسي يقول طه بعنوان فرعي لقصيدة التمثال انه قصة الامل الانساني في اربعة فصول اما المقدمة النثرية فهي التالية:
الانسان صانع الامل ينحت تمثاله من فنه وروحه ولايزال يبدع في تصويره وصقله متخيلا فيه الحياة ومرحها وجمالها ولكن الزمن يمضي ولايزال تمثاله طينا جامدا وحجرا اصم حتى تخمد وقدة الشباب في دم الصانع وتشعره السنون العجز والضعف فيفزع الى مقر احلامه هاتفا بتمثاله,, ولكن التمثال لا يتحرك والحلم الجميل لا يتحقق وهكذا تجتاح الليالي ذلك المكان وتعصف بالتمثال فيهوي حطاما، وهنا يصرخ اليأس الانساني ويمضي القدر في عمله .
وتتحرك القصيدة من الانسان الصانع للامل الذي يبدع تمثال الحلم الذي يزينه الصانع من بدائع الكون, لكنه مع الزمن لا يتحرك ولا يتحقق ويعصف الزمن به ويخضع للموت.
وعلي محمود طه يسبغ ابعادا جديدة علىالاسطورة الاغريقية ويزوجها لمفهوم القدر الشرقي ويبقى التمثال الامل جامدا في مقر الاحلام والفن لا يتحقق ولايتحرك ويؤول للفناء والموت وتبقى يد القدر هي العليا من فوق الفناء والانسان واحلامه وتماثيله.
ويستبقى بديع حقي في قصيدة نحت الفنان وتمثاله، وتصبح العلاقة بين الفنان وتمثاله علاقة عاطفية وفنية في آن.
ويبدو ان بديع حقي تحول بالحبكة الاسطورية الى قصيدة غنائية من قصائد الحب لذا نجد الحبكة توارت او تقلصت وبقي منها عناية النحات بتمثاله واستغرق ذلك من الشاعر القصيدة كلها, واعطى لتحول التمثال من الحجر والفن الى الحياة والحركة بيتا واحدا في نهاية القصيدة.
وقد افلح الشاعر في الصور الجزئية وتركيبها في صورة كلية واحدة لتدل على ثنائية الفنان والتمثال مستعيرا المنحى الرمزي للتعبير عن حبكة قصصية في شكل اسطورة.
ومع عناية بديع حقي بحركة الازميل في نحت ملامح التمثال في تصوير حسي يعتمد على الصور الجزئية لكنه يخلو من الحركة، ويلتفت في خاتمة القصيدة الى وصف خلجات الوجدان الخفية بعد ان جسم الصورة الحسية, لكنه يظل اميل الى الغنائية منه الى الشعر القصصي، حتى الحدث الذي تركز على بكاء التمثال كان عابرا في خاتمة القصيدة ولم يستطع الشاعر ان يستغله في حركة قصصية.
مهما يكن فالشاعر بديع حقي في تعامله مع اسطورة بجماليون لاتحيا الحياة على الفن بل يعرفنا بأن الفن هو الحياة.
اما عمر ابو ريشة في قصيدة (امرأة وتمثال) فيتعامل مع اسطورة بجماليون بشكل مختلف فالتمثال هو الجمال الخالد والانسان او الحياة هو الجمال الذاوي ولكي تبقى الحياة على جمالها وخلودها لابد من ان تتحول الى تمثال لا يتحول ولا يتغير.
اي لابد للحياة اذا ارادت ان تطول الخلود، من ان تستحيل الى جمال الفن الذي لايذبل وان تنتقل من التعاقب والزوال الى الثبات.
ويحتفط ابو ريشة في متن القصيدة بثنائية الحسناء والدمية الاولى تمثل الحياة والثانية تمثل الفن, ويصور الشاعر الدمية بالكلمات فهي تسخر بالفناء في عبورها الى الخلود, ترنو اليها العيون في حلم وحيرة تنم عن ابداع ناحتها العبقري فهي لم تكبر ولم تتغير لا تخضع للزوال والذبول.
ولكي تنجو الحسناء من فجاءات الزمان بالتغير يطلب الشاعر منها ان تتحول الى تمثال.
ويقدم ابو ريشة للقصيدة بمقدمة طريفة تربط اللحظة العابرة للقصيدة برموز الفن الخالدة فينوس في الصورة الظاهرة وبجماليون في المغزى العميق,, يقول عمر: عرفها المثل الأعلى للجمال والتقى بها بعد عشر سنوات فاذا ذاك الجمال اثر بعد عين فتألم ولما عاد الى بيته كانت صورة فينوس, اول ما وقع طرفه عليه .
وكما تقوم اسطورة بجماليون على جدلية الحياة والفن فكذلك قصيدة عمر ابو ريشة تقوم على جدلية الحسناء والدمية, فاذا استحالت الدمية الى حسناء بالفن فلماذا لا تستحيل الى تمثال حتى لا يتحول جمالها ولا يتغير,, وتبقى سامية خالدة في حمى الفن بعيدة عن الزوال وزمان الحياة المتحول.
وهكذا فإن التمثال في اسطورة بجماليون كرمز مركزي في حبكتها كان مصدر الهام لكثير من الاعمال الفنية في المسرح والقصة والشعر والنحت والرسم.
لكن دلالات هذا الرمز المركزي وسياقاته تحولت من مبدع الى مبدع آخر وفقا لتجربته ونظرته للحياة والكون والفن ومعاناته, فمن هؤلاء المبدعين من يعلي الحياة على الفن ومنهم من يعلي الفن على الحياة وفريق ثالث قد يكتشف علاقة جدلية بينهما او يدفعهما اي الحياة والفن الى موقع مهادن او مساوم.
الا ان الاسطورة في الاصل لا تهادن وان اغراءاتها دفعت شعراءنا المحدثين الى التعامل معها كأسطورة اغريقية لكننا نعثر على اصول لها في قبرص وصور من المدن الفينيقية ولعل اسطورة بجماليون كأسطورة الفينيق وقدموس هي صور اغريقية لاساطير مشرقية.
|
|
|