أفق في شعرية المعاناة: اللغة تجادل الأشياء الأكثر قرباً من الذات,,! محمد الحرز |
ان انفلات الذات الشاعرة ، واندفاعها الى عوالم اكثر حرية واكثر تماهيا مع اشياء الوجود وكينوناتها، وكذلك خروجها من اسر المنظومة المعرفية، عبر لحظة من لحظات المكاشفة الشعرية، تجعل المقاربة النقدية اكثر حيطة وحذرا في تلمس ورصد شعرية النص ذات الحاسية العالية، حيث الذات وهي تخترق عالمها الداخلي والخارجي على حد سواء وتؤسس بذلك عالما خاصا بكلمات الفم حيث الشعر (يهب الاسماء التي تخلق الكينونة، وجوهر الاشياء) كما يقول مارتن هيدجر، وحين تعتبر الكلمات افعالا ايضا حسب الشاعر امرسون , وضمن هذا المنظور للقراءة ، وما تشكله من اهمية في الكشف عن العلاقات الكامنة خلف النص (قوانين شعرية النص) لحظة ميلاده وتكوينه الانطولوجي، ستنفتح على المشهد الشعري الحداثي في ساحتنا الابداعية والذي يسعى الى تأسيس حدث الكتابة على نحو جديد ومغاير في ثقافتنا الراهنة، وهو فيما يتحيز ويتوسع ليتسم بالتماسك الكلي في بنيته الداخلية وان تباينت الاصوات، وسنقف على احد هذه الاصوات، وهو الشاعر احمد كتوعة في مجموعته الشعرية (كرة صوف لفت على عجل).
لعل المتأمل في المنجز الشعري لأحمد كتوعة، يشعر ان ثمة لغة تجادل الاشياء، الاكثر قربا وحميمية من الذات الشاعرة في الخارج المتعين وذلك في حركة موغلة في الشفافية حد التلاشي والذوبان حيث تنبني هذه اللغة على ما يمكن ان نسميه بشعرية المعاناة المتسربة في النص الكتوعي وما الفضاء البصري الممتد بين الاشياء والكلمات وبينهما وبين الذات سوى ايحاء مكثف، لتغليب الشعري على النثري والجمالي على المألوف والعادي والتأويلي على التفسيري، حيث يستدعي التواصل والتعاضد بينهما مستوى تتنامى داخله الدلالات وتتفاعل لانتاج المعنى من جهة، وتحقيق الشعرية بما يتعلق بها من تقنيات فنية مختلفة من جهة اخرى، واذا ما اقتربنا اكثر من لغة كتوعة الشعرية، يتعمق احساسنا بان لغته لاترتاد افقا معرفيا، يجسد الخبرة المتراكمة في مدار الذاكرة الجماعية الانسانية، اي انها لا تتجه الى الماضي في زمنه السحيق بالقدر الذي تتجه فيه الى الحاضر الواقع وقت التحامها واشتباكها بانفعالات الذات واصطدامها بالدفق اللاشعوري الناتج عنها، وهذا ما يعطي مؤشرا على ان اللغة تفصح عن تجربة ذاتية تعيد فيها الذات صياغة نفسها من جديد وبشكل مغاير وكأنها تتوسل حياة فاعلة داخل النص، حيث يتجلى الخلق الفني كبديل عن اللعب الطفولي حسب فرويد، ويكفي ان نشير هنا الى ان الصورة الشعرية المعنونة للديوان كرة صوف لفت على عجل تختزل معاناة الشاعر وواقع تجربته الحياتية بجميع مفرداتها، وتذهب بها الى اقصى حدودها الممكنة، مما يفضي بالتالي، الى انتاج قيمة جمالية خصبة لها خاصية الاستقطاب والجذب بحيث يتكىء عليها الشاعر في تحرير نصه من حدوسات معرفية سابقة عليه، حتى يصل النص الى مستوى (من الملامسة الحسية لاشياء الوجود) كما يؤكد على ذلك محمود امين العام, وثمة علاقة تراسلية، تنطوي عليها الصورة الشعرية السابقة، تكون بمثابة البنية الابتسمولوجية التي تنجذب نصوص المجموعة اليها، وتصب عندها دلالاتها المتعددة، ولعلنا ندلل على ذلك بالنص التالي:
كأنك تنزع من روح هذه الحجارة
التي تقذفها على الماء
فتحاصرك الدوائر
لم يكن بلل الحزن
واللاجدوى
ولكنه وعد ميت
جرعته كثيرا
ان الواقع المحمول في الرؤية الشعرية للنص، يضيء جانبا او يقوم بتعرية جزء من واقع المعاناة والغربة للشاعر المختبئ خلف تخوم الرمز في ثنايا الصورة الشعرية السابقة وهذا هو جوهر العلاقة او النية التي تتراسل نصوص المجموعة فيما بينها، عبر هذه العلاقة، ولكي تظل هذه العلاقة تمتلىء بالفاعلية المستمرة، وتظل تضبط حركة النص ودراميته، تجنح الذات - كرؤية تقنية - في تخريج الطاقة الانفعالية المتخيلة في الذهن على شكل موجات ذات عقد متساوية، والتي تمثل الصورة الشعرية، بؤرة انطلاقها الى الخارج المتعين حيث تقوم بتشعير الحياة كما لو ان الذات تعيش في الصور او تحيا فيها على حد تعبير كارل يونغ، وسنعثر في النص السابق على الدلالة التي تؤكد ما نذهب اليه ففي (,,وكأنك تنزع , فتحاصرك الدوائر,,) ترسم الذات عبر المشهد الدرامي الصامت، شكل المسار الذي تستدعيه الأنا الفاعلة في إضفاء دلالات الخارج (الحجارة) على دلالات الداخل (الروح) بل يذهب النص الى ابعد من ذلك,, الى نوع من التوحد يشير اليه الفعل المضارع (تنزع) المشحون بتلاوين الدمج والتماسك، عند ذلك يحدث تشظٍ في المسافة الواقعة بين الداخل والخارج بين الملفوظات الشعرية ومدلولات الاشياء، ويتعالق عندها الزمنان، ليكوّنا زمنا واحدا، هو زمن النص، ويحقق بالتالي ما يدعوه النقد الحديث (ايحاء التزامن).
بيد ان النص من جهة اخرى، يستقطب في مداره قانون الطبيعة، ليعضد به شعريته لحظة الكتابة، وهو فيما يستعير لا يحجب ولا يهتك بل يقولب هذه الاستعارة ويحولها من سياق منطقي الى سياق اكثر ايحاء وشاعرية ومرونة, وهنا نشير الى ان هناك نصين من نصوص المجموعة يخلقان شاعريتهما كما النص السابق، وهما نص (تلاشي) ونص (زيارة):
ام تسكب العصير فوق التراب
لتخط على الرغوة
ثانيا: يضعنا النص امام انقساماته، ضمن اطار بنيته السردية حيث تنقسم الذات داخل النص الى: أنا فاعلة/ أنا منفعلة، فالأولى: كامنة في خلفية المشهد النصي، تحركه (اي المشهد) عن بُعد اما نازلة باتجاه اعماق الذات او صاعدة باتجاه الرؤيا التي تشوف المستقبل دون ان تحمل في نبرتها اكثر من صوت واحد، هو صوت النص والذات والاشياء مجتمعة.
اما الثانية (الأنا المنفعلة) تمنح نفسها العري الكامل، فيما هي تتجه صوب ما هية (الآخر/ الاشياء) لتكتشف نفسها او تعيد صياغة ذاتها عبر التوحد، كما لو ان الاشياء ، مرايا عاكسة لما هو في الداخل، بمعنى آخر: انها لا تبحث عن المعنى خارج النص بل تحرك المعنى وتنتجه من الداخل، وهي تتحرك وفق مستويين في النص:
1) مستوى تندفع فيه الأنا بشكل افقي، مطلقة عالمها الداخلي بمفرداته غير المحسوسة، كي تجادل اشياء العالم بحيث تكون حدود المواجهة والتوحد عند حواف الجسد الانطولوجي للنص بمعنى: ان الذات هي التي تنسج شعرية النص دون ان يكون للجسد حضور فاعل في عملية الخلق او النسج، ولنأخذ امثلة على ذلك:
حسناً
هو الضياء حائط امامك
لم لاترشه
بعتمتك؟
أو: لن تطال حلمه السقف
بعيد
كلما جلبت سلما
تغابى
انها الذات - في المقاطع السابقة - هي الاكثر ارتباطا من الجسد في تماسها وتعايشها مع: الضياء، العتمة,, وغيرها من المقاطع الاخرى.
اما المستوى الآخر فالأنا تنطلق فيه بشكل عمودي، تجعل المسار الشعري للنص، مبعثا لإنتاج الصور الشعرية ذات التركيبة الاستعارية التي تلتحم طرفاها وتتماهى الموجودات والماهيات داخلها، حيث يتبين لنا انه ليس الذات فقط - كما اشرنا سابقا - تدخل في ترابط عضوي جدلي مع الاشياء، بل نرى كذلك، جسد النص وهو يدخل في المغامرة الكبرى مع الذات، فكلاهما يغيبان عن الوجود العيني، ليحضرا في الرؤيا/ الحلم محققين بذلك، ما يمكن ان نسميه بشعرية التجربة الذاتية او الخاصة بوصفها تجربة لا تحيل الى مرجعيات ثقافية خارج اطار حدودها، ونلمح الآن الى بعض الجمل الشعرية على ذلك:
ولكنك مموه انت ايضا
ومتخذ شكل مسمار
منحن على جدار
او:
لعلك ريشة متسكعة
عما قليل
تدوي على الارض
او:,, وانت في تفاحة يقضمها
العابرون في قارورة مطفأة
الأصدقاء,.
او:: أخوك الكبير:
مستودع مزدحم بالنفايات
كرة من الصوف لفت على
عجل؟
وثمة نص آخر، يتموضع في فضائه، المستويان الافقي والعمودي ولكنهما، يظلان بمنأى عن التقاطع في فضاء النص، كأن كل مستوى يمثل شكل دائرة تتوالد داخلها الصور الشعرية بنفس متلاحق دون ان يتعدى ذلك حدود الدائرة التي تسير فيها الصورة ونجد ذلك في نص (مساء - 1).
مما سبق، تبدو نصوص احمد كتوعة اكثر تجانساً وتناغما بين مكوناتها التعبيرية والجمالية حيث تمنح نفسها طابعا شديد التماسك، وهي تتموج حركيا في السياق الشعري للتجربة، ولكن ينهض امامنا نص (مسرح) كنص استثنائي او ناشز عن بقية النصوص الاخرى سواء في بنيته السردية او انزياحاته الدلالية، انه نص يوسع من حيزه الزماني، وذلك عبر استحضار رمز تاريخي بحيث يتم استنطاقه داخل زمن النص في حركة سردية، تعتمد على التصعيد الدرامي للمشهد، وبالتالي يحدث انكسار للزمن الموضوعي المقابل للنص لينفذ الزمن المثيولوجي، ويسافر بالنص الى اقصى لحظاته الماضية والمستقبلية هذا من جانب، ومن جانب آخر، يترك الباب مفتوحا للتواصل مع الذوات الأخرى من خلال تناصيه، تستدعي النص الاول (القرآن الكريم) وتتقاطع معه، مما يؤسس لرؤية/ رؤيا مغايرة لرؤية النصوص في المجموعة، هذا مع ملاحظة اننا نظرنا الى النص من خلال السياق العام للنصوص دون ان ننزع النص من سياقه مع النصوص، ومن ثم نقرأه منعزلاً عن ذلك، ويمكن ان نشير الى مقطع للنص:
المقاعد خالية
يتنزل برتولد بريخت
من علية الخشبة:
ايتها الكراسي المعدنية
يا عسس الظلام
ادخلي جنة المشهد
ويبقى ان نؤكد اولا: اننا عندما اصغينا الى نص كتوعة وسافرنا معه، كنا معتمدين في القراءة على تقاطع المخيلة مع المناهج النقدية حسبما يقول رولان بارت، مما يتيح لنا حرية اكثر في التأمل والإصغاء للنص.
ثانيا: لم تكن تسعى هذه القراءة للإطلالة على نص كتوعة لحظة تعالقه وتراسله مع تجارب شعرية اخرى من نفس السياق التجريبي للنص الحداثي ، وانما ظلت تترصد النص من الداخل، وان كنا نجد ان اضاءة هذا الجانب، يشكل منحى مهماً في رصد ملامح عامة لشعرية المشهد عندنا.
|
|
|