تأخر الامة الاسلامية عموما ومنها العنصر العربي، في ميدان التقنية الحضارية سبب لشعورها في العصور المتأخرة بحالة نفسية اثرت فيها على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي وادت بالسياسيين والمفكرين والعلماء والمثقفين وغيرهم من فئات المجتمع الى ان يتعرضوا لهذه الازمة واسبابها ودواعيها واحيانا الى ان يتبادلوا الاتهامات! ومنذ مطلع القرن العشرين الذي يوشك ان يرحل ونحن نبحث في اسباب تخلفنا، وهل ازمتنا سياسية ام ثقافية ام اخلاقية ام تقنية، ام هي طبيعة وراثية لا مجال للتخلص منها، ام هي دينية سببها ابتعادنا عن ديننا؟! هذه جميعها تساؤلات ومثار نقاش وموضع جدل منذ مائة سنة الى اليوم، بل منذ اجتياح التتار للشرق الاسلامي والصليبيين للغرب الاسلامي ومنذ سيطرة الاستعمار على بلادنا ومنذ رحيله العسكري وتسلّط اسرائيل واستعراضها لقوتها في المنطقة منذ هذه التواريخ والامس واليوم وكل يشخّص ازمة التخلف العربي امام الحضارة الغربية المسيطرة، ويظهر ان بعض الاطباء الذين ننظر اليهم اليوم كمشخصين ومعالجين لامراض التخلف قد اصيبوا بما يشبه الاكتئاب الحضاري ربما لكثرة تأملهم في اعراض التخلف، وربما لحرصهم الشديد على شفاء هذا المرض كل ذلك وغيره جعلهم يلقون باللائمة على هذا المريض وجعلهم يقسون عليه بل ربما استدعاهم الوضع الى ان يقولوا ان المريض حالة ميؤوس من شفائها ويستعصي علاجها!!
اكتب هذه الهواجس بعد سماع وقراءة لفكر استاذين كريمين دراستهما والسماع لهما يعتبران من اللحظات الثمينة في عمر الانسان فهما ممن يعوّل عليه في هذا الميدان ولآرائهما تأثير عميق لما يتمتعان به من قدرة على التأمل وقراءة التاريخ ودراسة الظواهر ومحاولة الخروج من موقع الازمة,, ولقد فهمت منهما حديثا مفيدا وناجعا عن اسباب التخلف الحضاري في الامة العربية خصوصا والاسلامية عموما، واهمية تجاوز هذه المرحلة من اجل غد مشرق متفوق وسعيد للجيل العربي الذي هو طليعة الامة الاسلامية وراية مجدها وعنوان عزتها,.
لكن الذي لا حظت عليهما هو ذلك الاكتئاب الحضاري الذي يسود تفاصيل حديثهما وهو ملحظ لا يعزز قدراتنا النفسية ولا المعنوية للتغلّب على تخلفنا، ولئن كان احدهما يمتهن الطب فانني كنت اتوقع منه ان يؤثر فيه المنحى الطبي الذي يرى في رفع معنوية المريض جزءاً مهماً من استرداد قدراته بإذن الله على العافية والشفاء ولكنني لاحظت فيه مسحة من التشاؤم بل جانبا نفسيا مكتئبا يقول ان ازمتنا الثقافية العربية وتخلفنا على أصعدة كثيرة لا يجعلنا في المستقبل المنظور على قدرة للخروج من هذا النفق المظلم، اي ليس ثمة نور في نهاية النفق بل استخدم حرفيا لفظة (الابدي)! ولقد قلت للاستاذ الكريم: ان هذا الوضع النفسي اسوأ من اضرار التخلف العام، بل هو من اسرار تخلفنا ايضا! وان من حقنا على اطبائنا في مستشفيات امراض التخلف العربي والاسلامي ان يواصلوا التشخيص والعلاج وألا يداخلهما اليأس وألا يصابوا بالاحباط من عدم قابلية الجسم العربي للعلاج ولا عدم جاهزيته للشفاء ولا من ضعف مناعته! فان لمحاولتهم وصبرهم تطبيبا لو علموا تأثيره لما داخلهم اليأس الذي قد يؤدي بهم في النهاية ان لم يتداركوه الى ندم كندامة (الكسعي) وهو شخصية عربية في الجاهلية كسر قوسه في لحظة يأس لأنه رمى عشرة اسهم ولم تصب طرائده وفي الصباح وجدها ممدة على مقربة منه لكن قوسه الرائع اصبح حطاما!
ومن بعده طلق الشاعر (جرير) مشروعه الاسرى، فندم
ندمت ندامة الكسعي لما غدت مني مطلقة نوار! |
وان أضر ما يمر به المفكر الساعي للمساهمة في المشروع الحضاري هو الانبهار بالغرب مما يجعله يفقد ثقته بذاته ومجتمعه فيستلبه الفكر الذي هام به مما يجعله ينقطع من جذوره ويخرج من قواعده وهي حال مر بها كثير من المفكرين العرب في مطلع القرن الحالي فاذا جهودهم لم تأت بالاماني التي كانوا يدأبون لها,,!!
ان العرب امة اعزها الله بالاسلام ومهما ابتغت العزة بغير الاسلام اذلها الله)! تلك كلمة مشهورة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وهي تتأكد في كل عصر ويشهد عليها تاريخ الامة في كل حين! ذلك لأن حضارة الامة الاسلامية اساسها النهضة الروحية القائمة على وحدانية الله واخلاص العبادة له وامتثال ما امر به الرسول صلى الله عليه وسلم هذا هو جانبها المعنوي وهو المهم، اما جانبها المادي فهو الاخذ من الدنيا بما يعزز الدور القيادي والريادي للامة في الارض على اصعدة العمران والادارة والعدة ومعاش الناس, ولقد نبهنا الله سبحانه في مواضع كثيرة من كتابه الكريم الى حضارات نشأت على الارض وكانت حضارات متفوقة في جانبها المادي لكنها منصرفة عن دين الله مما اوصلها في النهاية الى الافساد والطغيان فكانت عقوبتها العذاب الماحق من الله تعالى: قال عز وجل: (ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يُخلق مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصبَّ عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد) سورة الفجر الآيات من 6 - 14.
وان الامة العربية والاسلامية كراكب سفينة في المحيط لم يصنع البوصلة لذا لم يحملها معه واضاع علامات النجوم فلم يهتد بها وهذا سبب الحيرة وإضاعة الطريق!
ان النجوم، الوحي المنزل من الله الذي يجب ان نتمسك به كشرع ومنهج، والبوصلة هي تقنية الصناعة والعلوم الحديثة التي يجب ان نأخذ بها، واذا اخذنا بالسببين فان السفينة بقدرة الله ستمخر عباب المحيط وستتجه الى حيث شاطىء السيادة والسعادة والتمكين في الارض.
ان اوروبا لم تصنع حضارتها المعاصرة في قرن ولا في ثلاثة قرون وبناء الحضارات جهد متراكم تقوم به عدة اجيال ومنطقتنا العربية لم يرحل الاستعمار عن آخر مواقعه فيها الا منذ ما يقرب من ثلاثين عاما فقط!! وهي محتاجة الى الزمن لكي تعالج تخلفها الاداري والاقتصادي والحضاري الذي اورثها إياه المستعمر الغاشم الذي لم يرحل عنها الا بعدما استنزف جهدها وخبراتها وزرع الكيان الصهيوني كبؤرة صراع فيها لامتصاص استقرارها وحيويتها وتطلعها الحضاري، وقد نجح في تلك الاهداف الى درجة كبيرة مما يجعلنا امام امتحان عسير نحن بإذن الله على مستوى تجاوزه والتغلّب عليه!
لقد نشأ مشروع بناء الحضارة الاسلامية منذ مطلع القرن الحالي ولم يؤخره سوى مقاومة وجود المستعمر ومن بعده الحروب الخاسرة التي نازلنا فيها اسرائيل ومن بعدها النتائج الاليمة للحروب الطاحنة في قلب واطراف العالم العربي والاسلامي ولئن اكلت الحروب الطاقة والجهد المعدين للمنجز الحضاري لكنها لم تأكل الارادة والتصميم والامل لتحقيق التفوق الحضاري الذي ننشده ونتمناه لأمتنا على مختلف الاصعدة!
وان لدينا - بحمد الله - من اسباب العزة والكرامة والقدرات الذاتية والجماعية ولدينا من التاريخ والتجارب والافكار ما يبشر بإذن الله بولادة امة اسلامية مجيدة ستشرق مع الشمس، وستولد في الموعد وسيهبها الله الذي من سننه التمكين للصابرين ما تستحقه من النصر والعزة والتمكين في الارض, ان الامل بنصر الله هو مكمن التفاؤل وان التشاؤم هو الاب الروحي للاكتئاب بكل انواعه المعروفة وغير المعروفة وبكل اعراضه الظاهرة والباطنة ولعل الله يخرج من اصلابهم,,!!
عبدالكريم بن صالح الطويان