يلمع في ثنايا التراث الشعري العربي القديم بدائع من الصور الفنية تعبر عن القوة التخيلية التي امتلكها الشعراء,, والصورة الشعرية هي عصب التعبير الفني في الشعر، ذلك ان تشكيل هذه الصورة يحمل طابع الموهبة ومدى قدرتها على الابتكار كما يجسد الطبيعة بعناصرها الحية ويصنع من اللغة كائنات جديدة قادرة على الايحاء والدلالة بمعان لم تكن واردة على الخواطر قبل ان يقوم الشاعر بصياغته الماهرة ومن هذه الصور الفنية التي تثير فينا الدهشة والاعجاب قول الشاعر صردر
وقفنا صفوفا في الديار كأنها صحائف ملقاة ونحن سطورها يقول خليلي والظباء سوانح أهذي التي تهوى؟ فقلت نظيرها ويا عجبي فيها يصد انيسها ويدنو على ذعر الينا نفورها ووالله ما أدري غداة نطرننا أتلك سهام أم كؤوس تديرها أراك الحمى قل لي بأي وسيلة وصلت إلى ان قبلتك ثغورها |
والبيت الأول يتراسل مع بيت معاصر لجبران خليل جبران يقول فيه
انما الناس سطور كتبت لكن بماء |
وبينما يقف البيت القديم عند تجسد المشهد البصري حيث نرى الديار كالصحائف بينما الشاعر وظباؤه مثل السطور فإن جبران ينهي بيته بومضة مدهشة صادمة يرينا من خلالها سطوة العدم الكامن في الحياة والمتربص بالبشر.
والشاعر القديم صردر يصور النساء الجميلات كالظباء وهن يخطرن في دلال,, وحين تمر الظباء الحقيقية بالشاعر وصحبه يقول له الاصحاب اهذي التي تهوى فيقول بل شبيهتها,, وكأن الامر قد التبس على اصحاب الشاعر من قوة الشبه بين الظباء والنساء, ثم يعجب الشاعر وهو يوحد بين النساء والظباء في رؤية واحدة من نفور الاوانس ودنو النافرات من ظباء الحيوان وكان اولى بالنساء ان يكن أليفات وان تكون الظباء الحقيقية نافرات ثم ينتقل الشاعر بعد ذلك الى تصوير النظرات بالسهام مرة وبالكؤوس مرة اخرى ويشكك الشاعر في اشاراته ولمحاته وكأنه يريد لنا ان نقع في الحيرة طلبا لمزيد من التساؤل وتشوقا إلى الكشف عن حقيقة هذه النظرات فهو يتراجع عن قوله لكي يدفعنا الى حراين الفضول والاثارة.
وينتقل الشاعر انتقالا مفاجئا فيسأل اعواد الاراك وهو الشجر الذي تصنع منه المساويك يسألها كيف استطاعت ان تقبل ثغور الظباء,, وهذه الفتنة الفنية التي تثيرها الابيات القليلة تطلعنا على السحر الذي يكمن في فن الشعر,, ومن بدائع صور هذا الشاعر صردر التي أوردها الدكتور شوقي ضيف في كتابه تاريخ الادب العربي ما ورد في الابيات التي تقول
نسائل عن ثمامات بحزوى وبان الرمل يعلم من عنينا وقد كشف الغطاء فما ثيابي أصرحنا بذكرك ام كنينا بنفسي راميات ليس تفنى تصول سهامهن إذا رمينا وأمسينا كأنا ما افترقنا وأصبحنا كأنا ما التقينا |
والشاعر يجري على سنة الشعراء في عصره والعصور التي سبقته والازمان التي اعقبته من تركيز على فكرة المكان بما فيه من حيوان ونبات وجماد وانسان ذلك ان الشاعر القديم الذي كانت حياته رحلة مستمرة متحولة كان يجد في المكان الثابت ملاذا من عذاب الاغتراب ولم يكن المكان مجرد دعاء للتجربة بل كان شاهدا حيا على تاريخ الشاعر بأسره وكانت أشياء المكان تنطق معبرة عن آلامه وحنينه إلى ذكرياته وأشواقه إلى احبابه, فالشاعر يسأل النبات المسمى بالتمام عن احبابه الذين رحلوا وإذا كان التمام لا يعرف فان البان يعرف والشاعر يلمح الى أن التمام نبات ضعيف سريع الذبول فهو لا يتذكر ايام الشاعر على هذه الارض ولكن البان يعرف لان عمره اطول وثمة ايحاء آخر يريده الشاعر وهو ان البان يذكره بقوام المحبوبة التي يتساءل عنها,, وبهذا نرى الشاعر في عبارات قصيرة مركزة يمزج في شفافية بين عناصر المكان الحسية وعناصر التجربة العاطفية المعنوية,,
ويعود الشاعر الى تصوير النظرات بالسهام كما يصرح بحبه بعد ان افتضح امره وقد كشف الغطاء وهو يفدي راميات السهام ولكن ذروة الابيات تأتي في هذا البيت الذي يملأ نفوسنا حسرة وأسى ويزيدنا وعيا بطبيعة الحياة فيقول
وأمسينا كأنا ما افترقنا وأصبحنا كأنا ما التقينا |
فيا له من لقاء يشفي من كل فراق ويا له من فراق يمحو كل اثر للقاء وما أشد بعد ما بين الصباح والمساء,, وهذه ابيات اخرى لابن الجوزي من شعراء القرن السادس الهجري يقول فيها
يابرق ان تجف العقيق فطالما اغنته عنك سحائب الاصفان هيهات ان انسى رباك ووقفة فيها اغير بها على الغيران ومهفهف ساجى اللحاظ حفظته فأضاعني وأطعته فعصاني يصمى قلوب العاشقين بمقلة طرف السنان وطرفها سيان ما قام معتدلا يهز قوامه الا وبانت خجلة في البان |
والشاعر يركز في الابيات على المفارقة بين الحفظ والضياع والطاعة والعصيان وبين طرف السنان وطرف الحبيبة والقوام والبان,, ولكن الشاعر يلتفت في مطلع ابياته الى معنى دقيق حين يخاطب البرق الذي يضن على العقيق وهو موضع عشيرة المحبوبة بمائه فيقول له لقد اغنتنا عنك وعن مطرك سحب الجفون وهي الدموع حسرة على فراق الاحباب, هكذا نرى ان الشعراء توسلوا بالتصوير الذي ينهل من مصادر الطبيعة الحية عذوبة الماء ورقة الهواء وهذه البدائع الفنية هي التي تكشف لنا واقع الشاعر الخارجي معتنقا بالعالم الداخلي له في نفس الوقت.