نقد,, حداثة,, وتضليل ثقافي فريد من نوعه إبراهيم نصر الله |
لعب النقد الأدبي العربي في السبعينيات والثمانينيات، دوراً يمكن ان يقال الآن فيه، انه دور مخرب في معظمه، حيث غرّب الكتابة بفعل سطوته، عن كل ما يمس التراب والحقيقة وهموم البشر التي تبدأ برغيف الخبز ولا تنتهي بالكمية المختلف عليها من الهواء اللازمة لحياة الانسان في عالمنا العربي.
لقد أوجد النقد عزلة ومناطق عازلة، لابد من توافرها حتى يسمح للمبدع بالدخول الى بيت (الحداثة) الذي تبين مع مرور السنوات والمآسي انه لم يكن سوى بيت طاعة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، لانه ومن خلال المفهوم الضحل الذي عممه، لم يفعل سوى عزل الروح عن شروط حياتها.
وهكذا تم احتلال كثير من المنابر الصحفية، بين ليلة وسوادها - حتى لا نقول بين ليلة وضحاها - بقوى ذات نفوذ، نابع من اهمية هذه المنابر اولا، بحيث جرى ترويج ونشر كل ما ينتمي إلى هذا الاتجاه، شعراً ونقداً وخواطر لا تنتمي لدفء الحياة وأشواق البشر.
وعندما كنا نصرخ امام هذا الواقع المشوه، كنا نتهم غالبا بأننا (ترابيون) مقابل كتاب عباقرة ومعهم حماتهم من النقاد وأشباههم، ينتمون إلى ما فوق الارضي، كونيا وابداعيا، حتى ان شعراء لايشك في شاعريتهم (تم اقصاؤهم عن مملكة الحداثة بقوة هذه المافيات) مثل محمود درويش, وقد انتشر هؤلاء كانتشار (الجريمنيلز) المرعبين في فيلم سبيلبيرغ الشهير - كائنات نعم، ولكنها لا تنتمي لهذا الكون الذي يحتضننا.
وأعتقد ان النتيجة كانت مرعبة إلى حد يصعب وصفه، ولم ينج منها إلا القلة القليلة التي ظلت تؤمن بأن الكتابة ابداع، بما يعنيه الابداع من تجاوز خلاق، وإبحار عميق في تطلعات البشر وأحلامهم وهمومهم وقضاياهم الكبيرة والصغيرة.
وهكذا أوجد هؤلاء بقوة نفوذهم كتابة لا علاقة لها بالتاريخ، ولا علاقة لها بالمكان، ولا علاقة لها بالامتداد الروحي للانسان على هذه الارض - أرضنا - بل روجوا سخرية قاتلة من كل ابداع تلامس قدماه الارض، وسخروا من كل رمز جديد تبتكره شعوبهم في نضالها اليومي الذي تدفع فيه الدم ثمنا من اجل هواء انظف وروح اكثر حرية وأوطان تشبه مواطنيها لا جلاديها, ويكفي ان نتذكر الآن تلك الصفاقة التي كانت ترجم كل عمل فني يقترب من الانتفاضة ومن حجارتها التي تحولت إلى رمز كوني اصيل, في حين ان كتابا من غير العرب يقولون، مثل الشاعر والمسرحي الايطالي جينو لوكابوتو الذي قال في حوار معه نشر في عمان: كان على البشر ان يتأملوا حجر الانتفاضة بدل ان يذهبوا بعيدا لتأمل حجارة كوكب المريخ، لان المعجزة قائمة هنا.
لا ندافع هنا عن اعمال ضحلة، بل نشير إلى اعمال كبيرة كانت ضحية هذا النقد الاسود ومنابره.
لقد قدم الناقد فخري صالح شهادة مهمة - حتى لا أقول اعترافا - حين كتب مقالتين خطيرتين، عن الدور المدمر الذي لعبه النقد العربي التابع لنظريات الغرب حد الاستلاب في السنوات العشرين الماضية, ذلك النقد الذي حول الكتابة إلى مجرد فعل تقني بحت - حسب قوله - وعمل على فك الارتباط ما بين الابداع والسياسة والتاريخ وهواجس البشر اليومية.
وأعتقد ان النتيجة التي توصل إليها الناقد فخري صالح، وكنا من المنادين بها وما زلنا، تحتاج ان تقال بصوت أعلى وعبر منابر كثيرة، فهي صورة من صور عودة الوعي, وأظن ان شهادته هذه لها أهميتها لانها تصدر من الداخل، وقد خبر الصديق فخري هذه المقولات كما قال في شهادته الاولى، وأعلن بشجاعة نادرة رأيه في محصلة تجربة لم تفض إلى ما كان يشتهي.
كما أن شهادة الشاعر أمجد ناصر التي أدلى بها في حوار اجري معه منذ مدة تعزز هذه النتيجة، وهو شاعر حداثي يمارس التجريب بجرأة، وقد كان بدأ حياته شاعرا من شعراء التفعيلة، وأصدر دواوين (موزونة) مهمة، قبل ان ينتقل لخيار قصيدة النثر, يقول امجد ناصر: (إننا نحن معشر شعراء الحداثة مارسنا قتلا واقصاء متعمدين للمتلقي، شريكنا الآخر الذي لابد منه لتستقيم عملية الكتابة، وبشيء من المراهقة، حيث رحنا نمني المتلقي بالثبور وبمصائر مظلمة في علاقته مع كتاباتنا ورحنا نقول بموت المتلقي حتى كادت تموت كتاباتنا).
ويقول أمجد ناصر: (دعني انتهز فرصة هذا الحوار لأعلن عن اعتذاري الشديد ل(المتلقي) الذي لولاه لما كانت كتاباتنا ممكنة، بل بكل أسف وإخلاص، اعتذر عن اعلانات المراهقة الحداثوية وصخبها وجهالتها التي حولت الشعر إلى طلسم وصرفت الشريك الآخر للعملية الابداعية الذي به تكتمل وبه تتطور).
الآن، لا يملك المرء إلا ان يعلن حزنه ومرارته، وهو يحاول ان يحصي كم من المواهب الشابة الخلاقة التي لقيت مصرعها في واحدة من اكبر عمليات التضليل الثقافي الشامل وغير البريء في معظمه، التي مورست بعنجهية فارغة، وغرّبت الكتابة والكتّاب عن طعم الحياة وكل ما هو جوهري.
إن تلك الفترة السوداء التي لم تزل مستمرة حتى الآن، اعطتنا نصوصا ميتة لكتاب يعيشون بيننا ولكن لا وجود لهم، حين اوصلتهم إلى معادلة بالغة السخرية: انهم يثبتون حضورهم بما ينفي هذا الحضور ويبدده.
إنهم نماذج أخرى لضحايا من نوع جديد، في واقع يتفنن في ابتكار الضحايا.
|
|
|