الثقافة رهان حضاري نظرية التقدير في الثقافة (5) Evaluation Theory أ,د, كمال الدين عيد |
في مجريات الثقافة، الظاهر أننا قد تعاملنا مع مظاهر الثقافة دون النظر إلى جوهرياتها او العلاقات النفسية الداخلية والخارجية لها، مهملين بذلك الأسس الفكريةالتي جاء بها التقدير والتثمين في نظرية الثقافة, دليلي على ذلك ان اشعاعات الثقافة في فنون الأدب والقصة والقصيدة والرواية والمسرح والسينما والراديو والتلفزيون قد دخلت الى عالمنا العربي في القريب نقلاً عن الغرب، وفي غير اهتمام منا بمئات المفكرين والفلاسفة والتربويين الذين ادلوا بآرائهم - نظريا - في فكرة الثقافة.
فالتقدير شيء والثقافة شيء آخر، حتى وان كان مجال التقدير هو الحياة الثقافية ذاتها, ومع ان هناك علاقة بينهما إلا ان هناك مشكلة تامة بينهما ايضا لايمكن إزالتها الا بالتحليل العلمي الحديث, والسؤال الذي يطرح نفسه,, ما هو الشيء الثقافي الذي يمكن نعته بالتقدير والتثمين؟ ثم، ما هي الأسس التقديرية التي يستند إليها حكمنا؟ ومن زاوية اخرى، الى أي مدى ينسج هذا التقدير المفهوم او التصور الثقافي؟ وهل يبرز هذا المفهوم على سطح الحياة الثقافية مشكلاً بيانا او ظاهرة Manifesto أم يبدو كنور ضوئي لا أكثر ولا اقل؟ تحمل كل هذه التساؤلات نص العلاقة بين الثقافة والتقدير وتظهر ظاهرة بارزة للعيان في النظرية الثقافية.
ودون الدخول في تفصيلات فلسفية، فقد استقر التفسير الفلسفي في القرنين 18، 19 ميلادي على ان تعبير نقطة الثقافة ينصبّ على تطور الانسان في اتجاه التقدم، والمعرفة له للاهداف، والارتقاء الى أعلى درجات الحرية الانسانية، والتّماس مع قمة درجات التطور، نحو مضامين ايجابية بالضرورة.
1- لكن الظاهر ان تعبير (التقدير) يشوبه شيء من الغموض وعدم الوضوح الكامل، بماقد يخطئ المرء في تفسيره تحديدا, وقد يبدو التعبير مختبئا في الخلفية حين نبحث في تقدير الحريات او الاخلاقيات او الحضارة ذاتها, وهي الحيرة وكثرة التفسيرات التي جاء بها فلاسفة الألمان كانط، هردر، شيللر، هامبولت Kant, Herder, Schiller, Humboldt.
2- ثم ان التقدير ظاهرة مستقلة ذات وزن فعّال, وهو يلعب دورا هاما في كل مقررات الثقافة وبرامجها, والمثال على فعاليته المناقشات التي دارت في الثلث الاول من القرن العشرين حول الثقافة الكانطية (نسبة إلى نظريات كانط) على يد ريكارت، ويندلباند Windelband, Rickert.
3- وتنشأ مشكلات الثقافة عادة من فقدان التقدير او غيابة احيانا, ويظهر ذلك عمليا في التقدير المتسم بالذاتية او عند النشاط الانساني الشخصي, وبين الذاتية والشخصية تولد مشكلات الثقافة في العالم التي تمثل المستقبل الثقافي.
4- واستنادا إلى جدول التصنيف عند كورنيش جولا Kornis Gyula فإنه يضع تحت عنوان التقدير كلا من الحقيقة الجمال، الشيء الحسن, اما النشاطات والاجتهادات فهي الكامنة في الدين، العلوم، الفنون، الاخلاقيات بينما يرى في المستقبل الثقافي استمرار نفس عناصر النشاطات، باعتبار استمرار الحياة الانسانية حتى يوم الحق.
5- غير ان هناك عنصرا هاما يفرض نفسه إلى جانب التقدير، هو عنصر الواقع الذي يقدم الحقيقة للانسان رضي ام لم يرض، بصرف النظر عن منطقية كانط في هذا الخصوص والتي لا تعترف كثيرا بالواقع إلا إذا كان فاعلا معتمدا ومؤثرا منتشرا.
لكنه من المؤكد ان فعل التقدير قد افصح في الحياة الانسانية عن مكتسبات للانسان تمثلت في اولويات قيمه المستندة على الروحانيات في صدره في مواجهة لمعطيات الطبيعة (وما هي حالة ميتافيزيقية على كل حال) واجتياز الانسان حدود الطبيعة والسمو بعالمه الثقافي، وهو التحقيق الأمثل لفكرة التقدير التي نحن بصددها.
فالثقافة - كوجود حقيقي ماثل - هي قيم وحقائق في الوقت نفسه، شكل ومادة، وجود وأحاسيس, والتقدير النقي الخالص من الذات ومن الشخصية هو صمام الحياة المستقبلية للثقافة, لهذا تبدو القيم الثقافية ثابتة على مر التواريخ والأزمان محفوظة في اسرار وتاريخ الشعوب، أبدية لا تُمحى (الثقافة الاسلامية دليل على ما نقول), فالثقافة والتحضّر ما هما في حقيقة الامر الا نبضات خفية سرية Esoteric تدفعان بعناصرهما العديدة الى سطح السلوك والتصرفات, على هذا يبدو انسان الثقافة هو المستهلك لكل القيم والمثل والاخلاقيات, وهو يستبدل التصرفات الانسانية في الحياة بنموذج آخر أو طراز خاص Type له سمة المستقبلية الثقافية الواعدة,, هذه السمة التي تحوي بين جنبيها عناصر الثقافة الجديدة.
* تحليل نظرية التقدير
لا يظنن أحد ان النظرية وليدة العصر، فهي تضرب بجذورها منذ القديم,, منذ عصر أرسطو، لكن مما لاشك فيه ان تطور الثقافات قد سمح بالفرصة لعديد من الفلاسفة بإعمال فكرهم - في العصر الحديث - لمناقشة النظرية وعوائدها على انسان العصر.
وظل التقدير - كما كان في السابق - يعني ظواهر الواقع المعاش للانسان, حاملا للايجابية في لفظات وكلمات مثل (الحسن، الجمال) كما يحمل السلبية لألفاظ متناقضة للتقدير (السيىء، الضار) وما هي حصيلة الفلسفات المختلفة التي رأت المواجهة والتضاد على طول الخط بين التقدير وبين الحقيقة او الواقع القائم بالفعل, طرفا نقيض بين ما يريده ويرغبه الثقافي وبين ما يراه امامه من واقع حياتي, ومع كل هذا التصادم، فإن السلبية في التقدير لاتعني اختفاء التقدير كُلية, إذ أنها احيانا ما تغيب عنها لحظة التقدير او الاهمال في التعامل الدقيق مع النظرية التقديرية، وبما يصعب معه اكتشاف الحقيقة، باعتبار تواجد الاحساس الجمالي في عملية التقدير وأحكامه عند الاشياء التي لا تُرى او لا تُسمع، وما نراه ينطبق على عملية التقدير.
يرى كل من الألمانيين فون هارتمان، شلر Scheler, Von Hartmann ان التقدير يجمع لا محالة عنصري الايجاب والسلب والصراع بينهما, بينما يرى ألماني ثالث ن, هارتمان N.Hartmann ان التقدير يحمل في عناصره كل ما هو هام للبشرية، وكل ما هو حامل للتصميم، حتى ولو ظهرت عناصر غير ايجابية في التقدير, ومن المعروف قديما ان طريقة اليوناني ارسطو قد بُنيت على نفس النسق عندما تعرّض للفضيلة بادئا ببحث وتحليل السيئات, ولا يقتصر الامر هنا على المبادئ الاخلاقية فقط، لكنه يتعداه ليشمل الجماليات ويتحقق متجسدا فيها, على ذلك يظهر التقدير - من زاوية التحليل - كبعد او قياس Dimension يحمل الحسن والسيىء في آن واحد وإن اختلفت احجام طرفي النقيض, لكن الحل الايجابي لايكون إلا بيد الانسان وأيدي وعقول المقررين للثقافة وبرامجها, فالقياس في التقدير هو هدف للانسان في الوقت نفسه, إذ ان الرغبة والعزم إضافة إلى التصور الناضج هما الوسائل الناجعة لتحقيق ايجابيات الثقافة ونقاء التقدير.
ومع ذلك فإن هوبرز Hobbes منذ اكثر من قرنين من الزمن قد قال بأن التقدير لايعني الاشياء (السلوكيات والتصرفات) لكنه يعني ما بداخل انفسنا نحن، مضيفا بذلك تفسيرا إلى بقية التفسيرات، ليؤكد ان النفس تميل إلى ما تهواه او ترتاح له, لكن كانط لا يترك فلسفة هوبز تمر دون تعليق, فيشير في هذه الجزئية المحددة الى ان كل ما هو لطيف ومباشر ليس بالضرورة ان تكون نتائجه حسنة او مُرضية.
* بين الحاجات والمصالح
تلعب (الكلمة) - في الثقافة وغيرها - دورا هاما في تحديد المعنى تحديدا دقيقا لا يقبل التأويل او التهويل والمبالغة او الانقاص او الاختزال, ولفظة (التقدير) حساسة جدا شأنها شأن كلمات لغة الضاد وثراء المصدر,, القرآن الكريم, وبالكلمة يستطيع المرء تلبية حاجاته الموضوعية ذات الاغراض والاهداف المتعددة في الحياة, لكن ذلك لا يجري بنجاح او تحقيق الا عندما يكون تقديره للأشياء عاليا, بمعنى ان يصبح التقدير مفتاح الطريق إلى تلبية الحاجات، في الوقت الذي تصير فيه السلبية آنذاك في حالة إلغاء تام, فالحاجة منذ فجر التاريخ - كانت وستزال دوماً - من الطبائع الخاصة لدى الانسان، اما المصلحة فهي ليست من طباعه وخصاله، لكنها ظروف مرغوبة محمومة برغبة عارمة، وخارجة عن الارادة, ومع ذلك فهي في حالات كثيرة لا توصّل الانسان الى تحقيق ونيل الحاجات, والحاجة الى شيء او امر ما لاتعني التفريط في حريتنا الشخصية في حدود احتياجنا للحاجة, اما المصلحة فهي متطلب للظروف والاحوال (سياسية او بيئية).
ان الجسر القوي بين التقدير والثقافة لا يريد اكثر من انسان راق كريم، اكثر رُقياً من الاسلاف، ينعم بحاجة معيشية تهواها النفس وتترقبها، وتحبها وتنعم بها، وبالرضا مهما كان مستوى هذه الحياة، فالحياة احسن من الموت داخل الحياة وعلى ارضها، طالما ان الموت لابد آت, اما فيما يختص بالثقافة، فإن الولوج إلى باب التقوقع او الاستسلام لما هو حادث تحقيق لنظرية التفكير الاستسلامي، وبُعد عن طريق الارتقاء، واجترار لعهود ثقافية مضت لا تتناسب بالتأكيد مع استشراف ثقافة واعية معاصرة.
|
|
|