Sunday 4th April, 1999جريدة الجزيرة 1419 ,الأحد 18 ذو الحجة


مساحات بيضاء
جدلية الثبات والإزاحة (1)
ريمة الخميس

السؤال الذي اهملناه - تأملا في دلالته وبحثا عن اجاباته - هو ببساطة: (لماذا لم تعرف الثقافة العربية نقد الشعر إلا بعد اتصال الفكر العربي بالثقافات الخارجية وحوارياته معها؟)، فالثابت ان الثقافة العربية في مختلف عصورها القديمة قبل العصر العباسي، قد ظلت على موقف واحد في إعلاء قدر الشاعر، إما باعتباره المتحدث الرسمي باسم القبيلة والموكل اليه عرفا واعترافا رفعتها ظالمة او مظلومة وإما باعتباره محظيا بنعمة الجنون التي تفتح امامه أبواب وادي عبقر، يتحدث الى شياطين الشعر، وينقل عنهم كلاما مسحورا، وفي الحالين - مشعلا للنعرة القبلية او عارضا للموهبة الفردية - تحدد الموقف في تلقي هذا الشعر في تسابق على حفظ القصيدة كما هي واستباق الى العمل على نشرها وذيوعها بين القبائل، دون محاولة لخدش كلمة فيها يجلب السخرية على مقترفه، وفي إذعان وتسليم بقيمة عرفية وضمنية للشعر يعصمه من ان يطال نقدا بخير أو شر,, والثابت ايضا ان اتصال الثقافة العربية في العصر العباسي بالثقافة اليونانية والفارسية وغيرها، قد تزامن معه ظهور عديد من المؤلفات بالغة الأهمية التي قصرت نفسها على نقد الشعر وأسست لعديد من المناهج النقدية في تناول الشعر، انصرف بعضها الى اعتبارات اللغة والبلاغة العربية، وخاض غيرها في الاسس الجمالية للإبداع الشعري، وجرى آخرون على نهج أطروحات نظرية أجنبية في نقد الشعر ككتاب أرسطو بشكل خاص,.
وبداءة اقطع الطريق على من يتبادر الى ذهنه انني هنا أحاول ان اعيد سذاجة التصور الدارج وسطحيته في رد الأمر الى تأثر الثقافة العربية بالثقافات الاجنبية في استحداث فاعلية فكرية جديدة مارست وجودها في نقد الشعر، ذلك التصور الذي لم يتولد إلا عن إهمالنا لتأمل السؤال الذي بدأ به هذا الكلام، والذي يمكن ان نتتبع استشراءه حتى نصل إلى وضعية معاصرة في ايامنا للفعالية النقدية التي تحاول ان تخضع الإبداع الشعري قهرا وقسرا لعدد من الاطروحات النظرية النقدية التي استجلبتها من ثقافة الغرب تلخيصات سردية خلت من العمق الفكري واكتفت بالدوران في الما حول دون القدرة على السبر والغور!! ليس هنا موضوعنا على اية حال، وانما هي مجرد دعوة الى إعادة طرح السؤال وتأمله أولا، ففي هذا التأمل اكتشاف لطبيعة الإبداع الشعري,, ثم بعد ذلك البحث عن إجاباته ثانيا، ففي هذه الاجابة تلمس لأساس نظري عربي لنقد الشعر، إن كان هذا التلمس لنظر عربي او نظرية نقدية عربية تمثل هاجسا لأحد!!
على ان دعوة التأمل لا تعني قصر الجهد على اختبار سريع لمدى المصداقية فيه، من توفر المؤلفات في نقد الشعر او غيابها، لتكون الإجابة الاشد سرعة بالاثبات او النفي وينتهي الامر الى نفس النهاية التي عطلت فينا قدرة التواصل مع موروث نعتز به ولا نستفيد من دروسه,؟ لا تعني دعوة التأمل هذا القصر العجول على حدود صياغة السؤال بل بحثا في مصداقيته عن الاسباب التي منحتها له، ثم دراسة للظواهر التي وفرت تلك الأسباب، ثم تأملا طويلا لطبيعة الحياة وطبيعة الإبداع معا، حيث تكون علاقة الوصل والقطيعة بينهما هي الفعالية الحقيقية التي تمخضت عنها تلك الظواهر، التي قدمت تلك الاسباب التي كفلت تلك المصداقية لصحة الفرض في ذلك السؤال,!
واستخدام اسماء الإشارة هنا عمد قصد منه التأكيد على صلة جوهرية تربط كل بعد بالبعد الذي يليه,,!!
طبيعي ان يمتد ذلك التأمل الى استعراض نظرات بسيطة نقلها الينا الرواة تمثل اساسا في تخلق الفعل النقدي، من العصر الجاهلي ومن صدر الاسلام، تنامت في العصر الاموي، خاصة ما نعرفه عن خيمة النابغة الذبياني أو عن جدليات سوق عكاظ بشكل عام وإن كانت لم تمتلك الأهلية الكافية للصياغة في شكل قانون نقدي برغم اتجاهها الى اللغة والبلاغة احيانا، او ملامستها لجماليات الصياغة الشعرية احيانا اخرى,, وطبيعي قبل ذلك ان يمتد ذلك التأمل الى ما تعنيه في عصر ما الفعالية الشعرية وما تعنيه في عصر آخر,,, لم يتبدل المعنى، ولكنه ربما يكون قد أمعن,, وتمادى درجة بعد أخرى في مسافة الإيغال والإزاحة كما سنرى وان يمتد الى اللغة كرموز إشارية ذات دلالة مرجعية محددة في الحياة والى اللغة في الشعر ومسافة الازاحة التي قطعتها لتجاوز المرجعية الحياتية الى افق دلالات جديدة لم تفقد صلتها السيميائية الاصلية في مواضعاتها التقليدية,, وأن يمتد ذلك التأمل الى طبيعة العلاقة بين التجربة الحياتية في الواقع، والتجربة الجمالية في مجاز الشعر، حيث الاخيرة تجاوز للأولى لم يقطع الصلة بينهما نهائيا وإن شكل نوعا من الاعلاء والازاحة في قدر الوعي بالتجربة وحجم الدلالة في ذلك الوعي,,،
وطبيعي انه يمتد الى مائة مجال للبحث قد يزيد، ولكنه في مجمله يبقى على تمسكه بعناد وإخلاص، على رد الظاهرة الادبية العربية الى سياقها الحياتي العربي، بظرفه التاريخي والاجتماعي والثقافي، فيما يشكل في مجمله أساسا لنظرية عربية في النقد، لا ازعم قدرة على ملء فراغاتها، وإنما حسبي هنا تلمس خارطة لها وإن كانت فقيرة,!
رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved