* قال زيد لعمرو؛ وكانا قد افترقا على موقف صامت لم يجد فيه زيد جوابا او تعليقا على ما طرحه عمرو عليه من فضح الحقيقة وتبيان السبب فيما كانا يختلفان حوله، فكثير من القضايا المختلف عليها ,, لا جواب لها في بطون الكتب القديمة ولا صدورها، قال لعمرو.
- هل سمعت باشعار ابي فراسي الحمداني حين قال:
اقول وقد ناحت بقربي حمامة ؟
أجاب عمرو:
- بلى يا اخي زيد، وماذا بعد؟
أجاب عن السؤال المركزي:
- ألا ترى ان هذا الشعر باق الى اليوم برغم ما يدعيه الاخرون في هذا الزمان عن التغيير والحداثة في الشعر وغيره؟.
علق عمرو مبتسما:
- نعم يامحاوري الاخ ، لقد بقي وبقي غيره وغيره وبقي المتنبي ؛ لكنهم لم يبقوا بسبب عظيم ومهم؛ ذلك هو الحكمة والدراية والقيمة الانسانية المعتبرة في اشعارهم.
قاطعه زيد منفعلا ، وفي فجأة:
- لا,, لا تقل هذا، لقد بقوا في الاذهان لانهم كتبوا اشعارهم بالوزن والقافية.
لكن عمرو؛ لم يقتنع بهذه المقولة المكررة التي تؤول الصفة والشكل الشعري قبل الجوهر وكيانه,, فرد:
- عفوا يا أخي زيد,, إن المعنى هو الباقي وليس الوزن والقافية، والا لا عتبرنا ما قاله امروء القيس مثلا ,, نائبا عن كل حالات العرب في العشق والغزل والمكابدة في القوم، ثم اضاف:
(اسمح لي فلم أكمل):
اذا كنت سأقول مثلما قاله، او قاله عمر بن ابي بيعة أو أبو تمام فهذا يعني انني احس بمثلما قالا وقال الذين من قبلهم، بل وبنفس العصر والحاجة اللغوية والايقاع,, غير انني اليوم اعيش في زمن ومكان متغير البناء والظروف والفهم ؛ غير الذي عاشوه، وباحساس مختلف ,, فأنا إنسان اختلف بشعوري وملابسات زماني وظروفي عنه؛ لذلك كان عليّ (وبصورة استوجب ذلك, دون ان تكون مجرد مزاج شخصي).
***
كان الطقس الشتوي الربيعي الخريفي المختلط ,, قد آن وحان بين لحظة وأخرى بحيث سكن قليلا في وقت جعل زيدا يتنطنط مانحا ذراعيه للفضاء وشدقيه على آخرهما من الاندهاش والمغايرة، ولم يكن عمرو في غياب عن هذا ، فالانسان رسول قناعته ؛ والزمان لا يعطي حكما لاحد دون منطق معقول آخر براهينه العلم وقال لنفسه في تصبر: (ليس من الحق المهاترة بالقوة انما المنطق هو الحجة ، ولكن كيف تحاجج من لا حجة بينه له) ,, لا بأس، فقد قال تعالى في كتابه العزيز إنك لاتهدي من احببت قال عمرو:
- اسمعني يا اخي,, ان الفراهيدي رحم الله عظامه ونفعنا باجتهاداته ,, وضع اوزانا لزمانه وما قبله ولم يضع لما بعده,, وهو ليس نبيا ,, بل مجتهد ودارس,, فهل يجب ان اكتب الليلة او غيري اشعارا ومعاني محددة بالوزن والقافية مثل أبو فراس او عنترة أو ابن ملك كندة إن لكل زمان ايقاعه ، وشعراء الزمان الذي اعيشه لا يعيشون ذات الزمان وذات الظروف وذات ايقاع المكان والزمان الذي عاشه السابقون ، والحكمة في القول وليست في الوزن والقافية، وربما كان الزمان الآتي قد يأتي باشياء لا نعرفها,, نحن لسنا وصايا باسم الامس على كل حياة الناس.
***
لم يكن عمرو - برغم كلامه الذي استفز حافظة زيد - قد وصل الى غايته ,, اذ تقدم اليه زيد بمزيد من الاستنكار والصراخ الحجري والمعارضة اليدوية والشجار,, وكانا في كل مرة يختلفان، ولا حجة لزيد سوى اثارة الغبار والضرب على صدغيه في الليل والنهار,, فاللهم اشهد انك المغيِّر وحدك بحكم الليل والنهار والشمس والقمر ونجوم اخر اكتشفها العلم اليوم غير الكواكب الخمسة والسبعة، وللناس في حياتهم كل يوم شأن.
|