Wednesday 31th March, 1999جريدة الجزيرة 1419 ,الاربعاء 14 ذو الحجة


هل كان توفيق الحكيم شاعراً؟
محمد إبراهيم أبو سنة

كرائد تجريبي حاول توفيق الحكيم ممارسة كل الالوان الادبية وقلما وجد اديب لم يداعب الشعر وجدانه في مطلع الصبا كتعبير عن الفيض والاحساس العميق بالتغيير والرغبة في الكشف والتعبير,, وقد اكتشف الكاتب ابراهيم عبدالعزيز ديوانا صغيرا باللغة الفرنسية لتوفيق الحكيم,, ويضم الديوان احدى وثلاثين قصيدة منها احدى وعشرون قصيدة نشرت كلون من الشعر المنثور في كتاب توفيق الحكيم رحلة الربيع والخريف,, وكتبت هذه القصائد في العشرينيات من هذا القرن وعلى وجه التحديد في الفترة من عام 1926 حتى 1927 وقد ترجم توفيق الحكيم بنفسه هذه القصائد الى اللغة الفرنسية وثمة تسع قصائد ضمن الديوان الفرنسي كتبها الحكيم بالفرنسية مباشرة ونقلتها الى العربية الدكتورة كاميليا صبحي وهذا الديوان يعد مفاجأة للاوساط الادبية والثقافية,, وقد طرح الكاتب ابراهيم عبدالعزيز قضية علاقة توفيق الحكيم بالشعر في كتابه الذي صدر بعنوان (اشعار توفيق الحكيم) ولقد بسط الكاتب في دراسته التي جاءت في صدر الكتاب تفاصيل موقف الحكيم من الشعر,, وقد بدأت علاقة توفيق الحكيم بالشعر بصدمة عنيفة,, فقد حدث عندما كان صبيا صغيرا وذات يوم جمعة استدعاه والده وطلب منه قراءة معلقة زهيربن ابي سلمى وما ان وصل الصبي الى البيت الذي يقول:
ومن لم يصانع في امور كثيرة
يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم
حتى طلب منه والده تفسير كلمة (يصانع) فعجز الصبي عن التفسير واذ بوالده يصفعه صفعة قوية سال بسببها الدم من انفه وزلزلت نفسه زلزالا قويا,.
ويقول الحكيم وجاءت على الصوت جدتي التي كانت تحبني فصاحت به واخذتني من يدي الى حجرتها,, وانا ألعن المعلقات واصحابها بل ألعن الشعر كله,, وكان من الطبيعي ان احبه كما احبه ابي ولكن الدم الذي سال من انفي بسببه بغَّضه الى نفسي مدة طويلة.
يتساءل الحكيم ساخرا,, وكيف كان يمكن ان احبه وقتئذ وبيني وبينه دم مسفوك,, ولكن مرور الايام كان كفيلا بعودة توفيق الحكيم الى حب الشعر لان الشعر في الواقع لا ذنب له وليس هو الذي وجه اليه هذه الصفعة الدامية وانما الذي صفعه والده الذي كان فيما يبدو مفتوناً بالشعر قراءة وكتابة وقد تحدث توفيق الحكيم عن الشعر في كتابه زهرة العمر قد المحت الدكتور عبدالعزيز شرف على ما ورد في هذا الكتاب في تحديد موقف الحكيم من الشعر يقول الدكتور عبدالعزيز شرف -
رغم ان توفيق الحكيم كاتب مسرحي في المقام الاول الاانه يرى ان الشعر يحتل المكانة الاولى فهو يقول صراحة اعترف بان اعظم الاعمال الفنية في الادب هي الشعر اولا والمسرحية ثانيا لان الشعر بتعبيره هو معجزة فنية لان الاف الافكار والصور والاخيلة والمشاعر يجمعها الشاعر في سطر واحد,, هذا السطر العجيب الذي نراه ينتفض وانت تقرأه بهذه الالاف من الافكار والمشاعر والصور,, ان بيت الشعر يشبه طاقة مسحورة صغيرة تطل منها النفس على الوجود البشري بتجاربه وافراحه ومعانيه ,, ويتحدث الحكيم عن مهمة الشعر فيقول: (انها مهمة سامية رفيعة كشأن الشعر نفسه بعلو قيمته وارتفاع قامته على كل الفنون) ولان توفيق الحكيم فنان يتوسل بالخيال والجمال للتعبير عن افكاره فقد شبه رسالة الشاعر بالرسالة التي يقوم بها القمر لان كليهما يعطينا شيئا ممزوجا بطبيعته مخلوطا بخصائصه فالسؤال الذي يطرح على الشعر هذا السؤال عينه الذي يطرح على القمر ما الذي نقصد اليه من اعطائنا هذا الضوء المهذب الجميل؟ اما القمر فيجيب: لست اقصد فيجيب: لست اقصد بهذا الضوء ان اريكم واقع الاشياء فانكم ترون هذا الواقع مثلا واضحا في وهج النهار,, ولكني اريد ان ادثر لكم الاشياء في رداء جديد من نور وظلال لاوقظ فيكم روح الوجود وجوهر الكائنات واثير في اذهانكم عوالم اخرى اجمل واكمل من العالم الموجود واجعلكم ترون في ضوئي شيئا آخر غير الذي ترون في ضوء الشمس فتحيون بذلك حياتين فيزداد وجودكم بذلك اتساعا,, ويجيب الشعر على نفس السؤال الذي اجاب عنه القمر فيقول الشعر:
- انا ايضا لست أقصد ان اريكم واقع الاشياء في حقيقتها المادية فهذا من شأن العلم,, وما يجري مجرى العلم,, من تاريخ وبحوث تحقيق واحصاء وتسجيل,, ولكني اريد بضوئي ان اطرق ابواب تفكيركم ومشاعركم وانمِّي فيكم ملكة التخيل والتأمل,, واجعلكم ايضا تحبون حياتين,, حياة الواقع الارض وحياة الفكر العلوي .
ويقول الحكيم مؤكدا حاجة البشرية للشعر وقدرة الشعر على الصمود في مواجهة العلم يقول في مقدمته لديوان الدكتور عبدالعزيز شرف ان متابعتي للشعراء في السنوات الاخيرة اكدت لي ان العلم لم يستطع هدم الشعر فالحقيقة الفنية والحقيقة الدينية قبلها تستطيعان الحياة على الرغم من ظهور الحقيقة العلمية .
وقد طرح الاستاذ ابراهيم عبدالعزيز على صفحات كتابه (اشعار توفيق الحكيم) تفاصيل المعركة التي ادارها الحكيم في الثمانينيات على صفحات مجلة الاذاعة المصرية وطالب فيها الشعراء بالعودة الى لغة القرآن وبلاغته وايقاعاته في استلهام تجديدهم الشعري حتى تكون للشعر الحديث جذور ضاربة في اعماق التراث بدلا من التأثر بالشعر الاوروبي واليوت على وجه التحديد,, وقد اجمع الشعراء والنقاد في ردودهم على توفيق الحكيم على تنزيه القرآن الكريم عن ان يكون مرجعا للشعر لانه ليس شعرا,, وقد اطمأنت نفس توفيق الحكيم بعد ان اطلع على بعض النماذج الشعرية لشعراء المدرسة الحديثة,, ومن النماذج الشعرية التي كتبها توفيق الحكيم في هذا الكتاب وهي من الشعر المنثور قوله:
هبطت بعيني في اعماق فنجاني
فرايت الكون يخلق من جديد
هذا النقيع في القاع له غبار
يهيم طليقا في فضاء مديد
ادرت فيه المعلقة
واذا بدوامة تدور ثم تدور
وتجمع الغبار
في كتلة دائرة معلقة
وبدأ في الافق نجم وليد
ان كتاب اشعار توفيق الحكيم للاستاذ ابراهيم عبدالعزيز يعد اضافة واثراء لجانب جديد من شخصية الكاتب الكبير توفيق الحكيم كما يعد تأكيدا لاهمية الشعر للوجود الانساني.
رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الثقافية
الاقتصـــادية
القرية الالكترونية
المتابعة
منوعــات
الركن الخامس
عزيزتي
الرياضية
تحقيق
العالم اليوم
مئوية التأسيس
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved