طالما أني أكتب في الجريدة فلا شك أني قادر على كتابة كل شيء, فقد أحسن أحد أصدقائي الظن بي وطلب مني ان اصيغ له مطوية دعائية (بروشور), وكنت مثله حسن الظن بنفسي فوافقت على الفور على أساس ان الامر لن يستغرق أكثر من نصف ساعة, كان علي ان اعيد كلامه الشفهي مع بعض الشروحات المترجمة من لغة أجنبية، وان اصف الكلام الى جانب بعضه بحيث يكون مؤثراً وبليغا مع أخذ المساحة الصغيرة المعطاة في الاعتبار, وزودني ببعض التعليمات المهمة التي تحتاجها اي مطوية تجارية تريد ان تصل لأقل الناس ثقافة, فالمسألة بيع وتجارة ولا تتوفر على أي رغبة في التأثير الادبي او الثقافي على الناس, كان المطلوب لا يتعدى ملء نصف صفحة فلوسكاب بما في ذلك العناوين, بدأت العمل في مكتبه على اساس ان نصف صفحة من كلام معروف ومحدد سلفا لا يحتاج ان أتفرغ له كما افعل مع مقالاتي, قلبت المعلومات في دماغي مجريا ترتيبا نظريا لكل المعلومات وتصورت ما يمكن أن يكون عليه الشكل النهائي, وحاولت ان أقرر المعلومات التي يجب ان تكون في المقدمة وأي المعلومات تكون في الوسط والمعلومات التي يجب ارجاؤها الى الاخير ولكن المعلومات بدت متشابهة وتتضارب لتكون كلها في المقدمة, كما لم تفصح العناوين عن نفسها بسهولة.
فقررت ان اضع المعلومات بصورة متميزة بحيث تستقل كل معلومة بكتلة خاصة بها، ولكن ضيق المساحة رفض هذا الاسلوب، فكل معلومة تدخل مع المعلومة الاخرى لانها تخصها كي يتضح المعنى, او لان المعلومة لايمكن لها ان تكون مستقلة فهي في حاجة للمعلومة الاخرى لتساندها وتفسرها فأقلعت عن التنظيم وقررت ان استوعب المعلومات وأكتبها بطريقة مفتوحة واسمح لخيالي بترتيبها لتنساب مع القلم بالطريقة التي يراها الخيال وبعد ان بدأت وجدت ان الخيال لا يستطيع ان يحترم المعلومات الواضحة والصريحة ويريد ان يتدخل فيها ببعض التوريات والصور, وهذا يحتاج إلى أكثر من المساحة المعطاة وقارئ البروشور لن يتأمل كثيرا لوضع الصور والتشبيهات مع المعلومات المهنية المفروض ان يقدمها البروشور.
ظننت ان الامر ربما كان مزاجا خاملا فقررت تأجيل العمل وأخذه معي للبيت حتى أكتبه بمزاج رائق وفي إطار من جو العمل الاحترافي.
لم يصدق صديقي ان مطوية صغيرة تحتاج إلى مزاج رائق وعمل مكتبي جاد، فنحن نقرأ المطويات بسرعة وفي دقائق قصيرة دون أن نبذل اي جهد في تفحص طريقة بنائها, ونقرأ الاعلانات كأنها كتبت في لحظة خاطفة.
ذهبت الى البيت وجلست على الطاولة وشعرت ببعض التحدي الغريب تجاه هذه المطوية وفتحت جهاز الكمبيوتر وبدأت في طباعة بعض الاسطر المهمة او تلك التي رأيت انها مهمة, وبعد ساعة من المجالدة مع النص شعرت ان الامر لا يتعلق بالمزاج الرائق, وإنما بالدماغ نفسه, فالكتابة ليست واحدة وإنما هي كتابات وكل كتابة لها تدريبيها الخاص بها, وهي في النهاية مهنة مثل المهن الاخرى التي تتشابه موادها ولكنها في النهاية مهن مختلفة فتذكرت ان نجار البوطون (نجار المباني) لايمكن ان يصنع دولابا, ونجار الابواب لايمكن ان يصنع كرسيا رغم ان المادة هي نفسها الخشب فالاشتراك في المادة لايعني ان المهنة واحدة.
وهذه المشكلة تواجهني مع بعض الاصدقاء الذين يطلبون مني ان اكتب معاريضهم فإذا اعتذر المرء لانه لايستطيع لايمكن ان يصدق، وإذا بذل جهده وجاء النص مخيبا للآمال اتهم بعدم الاهتمام, فالناس توزع الاعمال على الاصدقاء حسب احتياجاتها، فإذا كنت تتعامل مع الخشب فكل ما يختص بالخشب يسند اليك بغض النظر عن تخصصك فيه, وإذا كنت مهندس طرق فلا بأس ان يعرض عليك مخطط بيته لتقدم له رأيك وإذا كنت طبيب عيون سألك عن مشاكل بطنه المزمنة.
مَن منا يعرف الحقيقة فالناس تريد لمصالحها ان تنجز ولن ينجزها سواك.
لذا عليك ان تكون كل شيء لترضيهم.
لمزيد من النقاش مع الكاتب.
E-mail,albakeet @ suhut.net.sa
|