Monday 29th March, 1999جريدة الجزيرة 1419 ,الأثنين 12 ذو الحجة


حين غنت الزرقاء
قراءة نقدية في ديوان: أين اتجاه الشجر؟ للشاعرة ثريا العريض
2 - 7
دكتور:محمد محمود رحومة

* الظاهرة الثانية - الصورة وفكرة الاخصاب:
تحمل المرأة اعظم مهمة على سطح الارض منذ خلقها الله تعالى، الا وهي المحافظة على النوع بالتكاثر والاخصاب الذي يعني استمرار الحياة, وجاء الوقت الذي يجب ان تفخر فيه المرأة بهذا الدور الذي كرمها الله به.
والشاعرة تلتقط هذا المعنى وتدشنه في صورها وتوظف مفرداته في شعرها لتؤكد من جديد انها امرأة تعتز بدورها وقادرة على دور آخر هو التنبيه والتحذير والدعوة الى الخير والحق تقول الشاعرة:
وكل الحوار هباء هباء
والزمان احتراق
فلماذا اذن نتناثر في الارتطام شظايا,.
وتبقى بنا تواريخ ذاكرة الرحم حقدا يراق؟
ولمع سيوف؟
انصنع طاغية من رغام اشتياقاتنا
وزيف تفاصيل اصدائنا وانسحاقاتنا
ونصرخ حين يمزقنا في انتهاكاتنا
خدعنا ,, خدعنا ,, باسم الاخاء؟
لك الآن يوسف رؤيا الملايين
فسر كوابيسها ومتاريسها
كم اخا نحن؟ والرحم ينفي وشائجنا
كخيوط العناكب واهية
واحزاننا تتوالد عارا وحمقا؟
والسنابل تحمل جدبا وموتا,.
لقد دخلت مفردة نسائية في تشكيل الصورة هنا اضفت عليها بعدا جيدا، ان المأساة التي حدثت بين العراق والكويت واحدثت الانقسام العربي كان من نتيجتها اننا نتناثر كل يوم الى شظايا مع اننا - جميعا - خرجنا من رحم واحد لاننا ابناء امة واحدة,, الشاعرة ام تساوي بين ابنائها، لا تفرق بين هذا وذاك الجميع سواء، تجمعهم الاخوة في الاسلام والمصير الواحد في العروبة.
ان الصورة الشعرية السابقة تتمركز حول كلمة (ذاكرة الرحم) فقد جمعت في هذا الاستخدام كل مفردات الصورة المتنازعة (العراق - الكويت - باقي العرب) وفي استخدام آخر تبحث الشاعرة عن (يوسف) آخر كسيدنا يوسف يفسر الرؤى التي تزعجنا فنحن لا يمكن ان نعقل ما نراه، وتسأل الشاعرة: كم عددنا ويأتي الجواب: ان الرحم ينفي وشائجنا، كخيوط العناكب واهية, هنا تكريس لتوظيف الاخوة التي لا تفيد ولا تنجح في انقاذ الاوطان من الشرور والاحقاد، وتتوالى صور الاخصاب: احزاننا تتوالد والسنابل تحمل جدبا، وتتعانق فكرة التوالد والحمل مع فكرة بناء الرحم الواحد لتتآزر اطراف الصورة من جزئيات قاموس المرأة (الحمل - الولادة - الرحم) لتكون في النهاية صورة كلية ، كونتها انثى تفهم دورها وتقنعنا فنيا بقدرتها على نسج خيوط الصور من مفرداتها الخاصة.
المرأة هنا هي الام التي انصرف اولادها عنها غير طائعين لها ولا مقدرين لصلة الرحم بينهم، وهي تقف حائرة: ماذا تفعل؟! ولا تجد الا الاستنجاد بنا طالبة منا ان نعي تماما حقيقة وجودنا (اخوة نحن - بئس الاخاء وبئس النفاق) لقد اتاحت الانثى - المرأة - الام لمفرداتها ان تفجر معاني تصويرية جديدة مع انها مفردات قديمة قدم الحياة نفسها ولكن التشكيل الجديد يضعها في صورة جديدة.
واذا كان الرحم يحمل الميلاد فانه يحمل الموت ايضا، تقول الشاعرة:
أرش على الجرح ملحا,.
ونارا,.
ويبقى النزيف
وطني,, وطني
دما قانيا تتفجر
اذ تتوالد فينا البسوس ص 53.
ان البسوس - الشؤم - لا تلد الا اجنة مشوهة لا نريدها، فالانقسامات بين العرب قد زادت على حدها والموت حينئذ افضل من الحياة ونحن نعاني الضعف والتخاذل والهوان، في الوقت الذي تخرج البسوس ابناء الشؤم يظل الوطن بلا اخصاب اذ تم اجهاض وازهاق روح الاجنة الطيبة قبل ان تخرج الى النور, هؤلاء الذين يقتلون الامل في النفوس ويمنعون الشمس ان تشرق والنور ان يسطع (ذاك الذي يجهضون بوادره,, وطني/ والذي يضرمون الهشيم المعد لاحراقه ,, وطني ص 55) وتستعجل الشاعرة في المقطع السابق - لحظة مولد البطل، تبحث عنه في وجوه الذين تراهم، وجوههم ممسوخة واحلامهم محدودة وامالهم محصورة في توافه الامور, اين البطل اين ، تسأل فاختة - المرأة العربية عن الذين ولدتهم اين ذهبوا فترد ليتني لم الد (أسائل فاختة عن بنيها/ فتهتف: ياليتني لم ألد, ص 41) ان الاخصاب هنا بالرغم من وقوعه - اخصاب كاذب، لم يأت بالبطل المنتظر الذي نحلم به، ونساء العرب ينكرن ما اخرجته احشاؤهن لان الميلاد الصحيح لبطل سليم معافى من النقص يحقق الآمال.
وفي موضع آخر تكرر الشاعرة رفضها لهذا الاخصاب المشوه وتلجأ الشاعرة الى الام الكبرى، الارض، تقول الشاعرة:
منذ ابتداء الدوار
الارض مفردة لم تهن
في صخب القارئين
بنيناها وقراً
وبانت بنا عقماً
فمن - حين نصطف والواقفين -
يضيء لنا حلما لانعتاق الحوار؟
ومن؟
يولّدها وطنا وانبلاج زمن؟ ص 85
الحاجة الى الاخصاب الحقيقي لميلاد بطل، ومولد وطن وبداية زمن هو امل الشاعرة, والصورة هنا مفرداتها تتكىء على دور الام، ومهمتها في ولادة بطل ولكن الأم قد تكون عقيما حين تخرج من احشائها عشرات الاجنة، انهم ليسوا البطل المفتقد، ليسوا الحلم المتوهج في احلامنا, الشاعرة تتوقف بنا امام ما يمكن ان يسمى هنا,,, بالحمل الكاذب,, وتستخدم ذلك استخداما رمزيا رائعا في الصورة السابقة.
وفي القصيدة نفسها - في موضع آخر - تكرر الشاعرة نفس المعنى (من يولدها مطلعا لانبلاج نهار؟) ص 87، فكرة الاخصاب اذن تدخل في تشكل الصورة الشعرية لدى الشاعرة الانثى.
(ح) الظاهرة الثالثة التشكيل وشخصية المرأة:
غنية قصائد هذا الديوان بالصور الشعبية التي رسمتها انامل امرأة، وحين ترسم المرأة؛ كلمات فهي تكشف عن جوانب حياتها وخصوصيتها, وقد نذهب ابعد من هذا لنقرر ان قصيدة مثل: غيرك ما كان، لا تقولها الا امرأة، كل سطر شعري ينضج بتجربة امرأة، ويشي بخصوصية انثى تستخدم مفرداتها وتمد يديها لتلتقط هذه المعاني كما لو كانت في متناول يديها وكأنها تفتح حقيبة يدها وتأخذ منها شيئا مما تريده, هذه القصيدة احاول ان اقدم تحليلا سريعا لبعض مقاطعها، فهي في رأينا تؤكد هذه الظاهرة لدى الشاعرة، تقول القصيدة:
بيني وبينك يا وطني
ركام من الصمت والكلمات
وهذا الذي يتناوبنا هوسا وانشطاراً
بذاكرة الاغنيات
لغة رقيقة تطل عليك فجأة، بيني وبينك ياوطن، انها شاعرة امرأة لا تقيم الحواجز بين العواطف، نعم بينها وبين وطنها ركام من الصمت ولكننا نشعر بأن الوطن يجري في دمائها وانها لا تتحدث عن غريب عنها وانما عن قريب اليها تستنطق منه المعنى العتاب واللوم، ونمضي الى مقطع آخر:
بيني وبينك
عاصفة الركض هاربة من صقيع الشتات
فكيف أعيشك؟
راقصة الخطو,, في لحظة البدء بالوعي
منهلة نشوة الخطوات
وكيف اموتك؟
فاجعة عودتي للسبات,,!ص 24
في هذا المقطع تتضح نظرتنا اكثر فالمرأة واقعة بين الحب والموت/ حب الوطن واليأس منه، لننظر كيف تستجلب الصور الانثوية الاخاذة، كيف اعيشك ولم تقل كيف اعيش فيك لان الوطن يرقد في اعماقها، انها الام والوطن يسكن في احشائها، ينتظر الميلاد (البدء بالوعي) وتأتي مفردات (مذهلة نشوة - راقصة الخطو - فاجعة - السبات) لتؤكد المفردات كذلك انحيازها الى لغة المرأة ومفرداتها ان الخطوات تنتشي مبشرة بالامل القادم، ولكن فجأة لا يحدث الميلاد، وهنا تتساءل الشاعرة: كيف اموتك؟ فهي صاحبة القرار الموت او الحياة، وكانت العودة الى السبات - الغفلة فاجعة تعطل حركة الحياة وتوقف الزمن، وكل هذا تفعله الشاعرة وكأنها ترسم للكون خارطة اخرى، طموح امرأة وغرور انثى قادرة على صنع دنيا جديدة من مفرداتها هي, نأتي الى مقطع آخر.
وطن أنت
مهما اعتذرنا عن الموت فيك
هذا الذي لا تقول,.
ولا ترتضي ان يقال لنا
يستبيح شراييننا
وحين يضيعنا,, حلما نحتويك
نتوه بأرصفة الاغنيات
تخاتلنا وعينا
الامنيات المليئة بالرمل والملح
نرفضها
لا نقايضها صخبا ناشزاً,.
لا نقايضها ,,تراتيل امرأة
يعزف الصمت فيها انتشاء الحياة
تراتيل امرأة لم تكن قبل تعشق الا المدى
ووجهك حين يخالسها الفجر نشوته
وطنا موسمي الندى
تفاجئها عازفا وجع الصمت والذاكرة
وتربك عودتها للسبات 24 - 25
هنا مفردات انثوية جاهزة سحبتها الشاعرة من حقيبة يدها (يستبيح - نحتويك - تراتيل امرأة , انتشاء الحياة - تعشق - يخالسها الفجر نشوته) وهناك مفردات ادخلتها الشاعرة الى حوزتها وامتلكتها وصيرتها مفردات خصوصية تحمل شخصية المرأة وعاطفتها مثل (الموت فيك - حلم - نتوه - صخب ناشز - يعزف - موسمي - الندى - وجع - الذاكرة - تربك - عودتها - السبات) وغير المفردات الجاهزة والمصنعة ادخلت الشاعرة كل تلك العناصر وصنعت منها صورا شعرية جزئية وكلية تشي هذه الصور بتجربة المرأة ووجدانياتها، ولا تستطيع ان تقول هذا المعنى سوى امرأة تعرف معنى استباحة الصلة لشرايينها وحتى حين يضيعنا الوطن بقسوته وظلمه - ولنتأمل تسامح المرأة وعاطفة الحنان المتوقدة فيها، حتى اذا رفضنا الوطن او لفظنا فهو كائن فينا,, حلما نحتويك,, والمعنى ان الوطن ليس حالة نعيشها او رداء نرتديه او نخلعه ولكن الوطن يسكن في شراييننا وحتى عندما يقسو يصبح حلما في اعماقنا, لننظر الى معنى , ,الاحتواء - هنا أليس هذا الاحتواء قريبا من رحلة الحمل، حين يكون الجنين والام كيانا واحدا، حين تفتقد الشاعرة الوطن تخرجه من احشائها مرة اخرى، تلد وطنا آخر لانها هي امه، مصدر وجوده اذن الشاعرة والوطن شيء واحد، هنا ساعدت تجربة المرأة وألفاظ الانثى في تشكيل هذه الصورة الجديدة تماما, ثم نتابع رحلة الشاعرة بحثا عن الوطن، هل ترضى الشاعرة بالوطن - الاغنية؟ انها ترفض ان يتحول الوطن الى مجرد اغنية تصرخ بها حناجرنا - نحبك ياوطن ثم نكون قد ادينا دورنا نحوه, الشاعرة ترفض الصخب، تلك المعاني التي نلوكها من وقت لآخر ثم نمضغها دون ان تحرك فينا ضميرا او تحدث اثرا, الاغنية هنا تخدع وعينا، فليس حب الوطن ان نغني له بل ان نعمل ونكدح نشقى.
ان اغنيات امثال (نحبك أيها الوطن الغالي) قد تلعب دورا عكسيا اذ توهم الانسان انه قد اعطى وطنه وعمل ما عليه بعد ان يكتفي بترديد الاغنية الجميلة التي تصادر وعينا وتنصب شرانق البلادة في حين يعمل الآخرون ويتقدمون وتنجح اوطانهم في ان تجد لها مكانا تحت الشمس.
وتعود الشاعرة مرة اخرى الى الانثى, ان الوحيد القادر على بث الوطن مشاعر صادقة هي المرأة هي الشاعرة لانها تملك تراتيل الصدق وتدق نواقيس الخطر، ان جملة,, انتشاء تؤكد قدرة المرأة على مواجهة العدم, ابدا لن يموت الوطن طالما هناك حياة وهناك سحر وانتشاء بهذه الحياة، المرأة وحدها تملك السلطة على هذا الانتشاء وتملك توظيفه لصالح الوطن، لانها تعشق الوطن، فهي تعطي, ان الوطن موجود فجأة بعد ان عانت الشاعرة مخاض الولادة ومنحت الوجود وطنا قويا قادرا,, لماذا؟
للحياة ولنشوتها جذوة في اعماق الشاعرة، وتذكرنا كلمة ,, موسمي في السطر الشعري,, وطنا موسمي الندى - تذكرنا بموسم الاخصاب ، وتستدعي صورة ما من صور الحمل الذي تعرف المرأة - المرأة وحدها - سره، كذلك تلعب كلمة,, الندى, دورها اذ تتعانق مع صورة الفجر بنشوته وهو يختلس البوح, صورة الوطن، موسمي الندى، الوطن الولود الذي لا يموت ابدا, انه باق خالد وحين تستجلي الشاعرة بشاعة الواقع تعود من جديد الى السبات في انتظار حمل آخر لبطل لابد ان تقدمه يوما ما للوطن كلمات الشاعرة تحمل ابعاد تجربة خصوصية المرأة ومن تمازجها مع الواقع والمحنة التي يحياها الوطن تخرج صور جديدة.
ومن الطريف ان المفردات التي تكشف عن خصوصية المرأة في هذا الديوان من الكثرة بمكان وهناك مشاهد شعرية تحتاج الى وقفة أطول، وحين تقول الشاعرة:
ويذكرك القلب,,, زرقاء.
موصومة في اليمامة
تثيرك ولولة في الخليج
وترجيع اصدائها في تهامة,,/ ص 35
فأنت لاتجد مجهودا في ادراك مفردة كاشفة هي ولولة وهي تمنح الصورة احساسا عاطفيا نبيلا,, ان الولولة غير الاحزان ، تشير المفردة الى احزان ساخنة مستمرة دائمة، الولولة تكشف عن عمق المأساة، ولولا الانثى التي التقطت هذا المعنى ما كان موجودا في هذه الصورة، وهو يناسب تماما ما يحدث الآن في بلداننا العربية حيث تعمل اسرائيل على اذلال العرب وقمع الفلسطينيين وترفض الاعتراف بحقوقهم, ان كل بيت عربي جدير به ان يقيم مناحة تعلو فيه الولولة مادمنا غير قادرين على الفعل، الشاعرة تفضح عجزنا ولا تملك الا مشاعرها، البكاء الحار,, انها تريق دموعها ثمنا لافاقتنا مما يدبر لنا، ان كلمة ولولة النسائية قد قامت بالدور المركزي للصورة الشعرية وجمعت حولها هذه الرؤية واستدعت هذه التفسيرات ونجحت في تقديم صورة مدهشة.
وللحديث بقية

رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
الركن الخامس
عزيزتي
الرياضية
الطبية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved