مخاطر العولمة على الهوية الثقافية (1-5) د,محمد عمارة |
من العيوب القاتلة في حواراتنا الفكرية المعاصرة، استخدام وترديد العديد من المصطلحات دون ضبط وتحرير لمفاهيم ومضامين هذه المصطلحات,.
واذا كان اسلافنا قد قالوا:إنه لا مُشاحَّة في المصطلح ,, فإن هذه المقولة صادقة فيما يتعلق باستخدام المصطلح,, أما في مضامين ومفاهيم المصطلح، فكثيرا ما تكون هناك مشاحة، عندما تتوحد المصطلحات، مع تغاير وتمايز مفاهيمها ومضامينها في الحضارات المختلفة والتيارات الفكرية المتباينة.
فمصطلح السياسة واحد،تستخدمه -دون مشاحة- مختلف تيارات الفكر، بمختلف الفلسفات والديانات والحضارات,, بينما مضمون هذا المصطلح مختلف ومتمايز باختلاف الحضارات والفلسفات,.
فالسياسة عند ميكافيلي 1469-1527م - وفي الفكر الأوروبي- هي: فن الممكن من الواقع,, والتحليل لعلاقات القوة التي تمارس من خلال عملية الحكم، وفي اطار الدولة,, ،
فهي فكر وعمل، يعتمدان الصراع والقوة، لتحقيق الممكن من بين خيارات الواقع، وذلك دونما ضابط من القيم والأخلاق (1) .
بينما نجد لذات المصطلح -السياسة- في النسق الفكري الإسلامي- والسياسة الشرعية- مفهوما مغايرا، يجعلها مضبوطة بمنظومة القيم الإسلامية,, فهي الأفعال والتدابير التي يكون الناس معها أقرب الى الصلاح وأبعد عن الفساد,, اي استصلاح الخلق بارشادهم الىالطريق المنجي في العاجل والآجل، وتدبير المعاش مع العموم على سنن العدل والاستقامة,, (2)
فهي مضبوطة بمعايير العدل الإسلامي وفلسفة الاستقامة الدينية ومنظومة القيم والأخلاق,, ولا تقف مقاصدها عند المنافع التي تحقق الإشباع الدنيوي للانسان، وإنما تربط صلاح الدنيا بسعادة الآخرة، التي هي خير وأبقى للإنسان,.
فالمصطلح واحد، لا مشاحة في استخدامه من قبل مختلف الحضارات والفلسفات والأنساق الفكرية,, لكن هناك اختلافات -ومن ثم مشاحة- في المضامين، تستدعي وتستوجب تحرير مضامين المصطلحات التي اختلفت مضامينها- وخاصة بعد الاحتكاك الحضاري بين الغرب والإسلام- وذلك حتى لا تكون حواراتنا حوارات طرشان يرددون ذات المصطلحات، بينما يفهم كل فريق ما لا يخطر ببال الآخرين!,.
ومثل مصطلح السياسة -في هذا المقام- مصطلح العدل الذي يتحدث عنه الجميع، بينما تختلف مضامينه في الليبرالية الرأسمالية عنها في الشمولية الشيوعية، ناهيك عن مضامين العدل في فلسفة ونظرية الاستخلاف في الاسلام,.
وكذلك الحال مع مصطلح الدين ,, الذي هو في الاسلام -والديانات السماوية-: وضع إلهي,, بينما هو في الفلسفة الوضعية: افراز بشري، وبناء فوقي لطور من أطوار الاجتماع الانساني في مرحلة طفولة العقل البشري!
ونفس الشيء بالنسبة لمصطلح الاقطاع ,, الذي هو -في تراثنا الديني والحضاري-: تمليك منفعة الأرض الموات لاحيائها,, بينما هو الفكر الغربي: امتلاك الأرض وما عليها -من أدوات- ومن عليها -من فلاحين- عبيدا كانوا أم أقنانا (3) !.
لذلك - وحتى لا يكون حوارنا حول الثقافة والهوية العربية الإسلامية في ظل العولمة حوار طرشان، لابد من البدء بتحرير مضامين مصطلحات هذا الموضوع.
* إن الثقافة في النسق الفكري الإسلامي: هي كل ما يسهم في عمران النفس وتهذيبها,, فالتثقيف، من معانيه: التهذيب,, واذا كانت المدنية هي تهذيب الواقع بالأشياء، فإن الثقافة هي تهذيب النفس الانسانية بالأفكار والعقائد والقيم والآداب والفنون -وكلاهما- الثقافة والمدنية-عمران,, عمران للنفس وعمران للواقع، ولذلك مثّلا شقي الحضارة- التي هي العمران ,.
وبسبب من تعلق الثقافة واختصاصها بعمران النفس الانسانية وتهذيبها، تمايزت الثقافات بتمايز الحضارات، بينما مثلت المدينة -غالبا- المشترك الإنساني العام بين الحضارات,, ولقد جاء مبعث التمايز في الثقافات كثمرة لتميز النفس الانسانية، في كل حضارة من الحضارات، وذلك لتميز المكونات والمواريث والعقائد والفلسفات والعادات والأعراف التي مايزت بين البصمات الثقافية في أمم هذه الحضارات,.
هذا عن مفهوم الثقافة ,, وتميزها بتمايز الحضارات.
* أما الهوية- في عرف حضارتنا العربية الإسلامية-: فإنها مأخوذة من هو,, هو ,, بمعنى أنها جوهر الشيء,, وحقيقته، المشتملة عليه اشتمال النواة على الشجرة وثمارها (4) ,, فهوية الإنسان,, أو الثقافة,, او الحضارة، هي جوهرا وحقيقتها,, ولما كان في كل شيء من الأشياء انسانا أو ثقافة أو حضارة- الثوابت والمتغيرات ,, فإن هوية الشيء هو ثوابته التي تتجدد ولا تتغير ,, تتجلى وتفصح عن ذاتها، دون ان تخلي مكانها لنقيضها، طالما بقيت الذات على قيد الحياة!,, إنها كالبصمة بالنسبة للإنسان، يتميز بها عن غيره، وتتجدد فاعليتها، ويتجلى وجهها كلما أزيلت من فوقها طوارىء الطمس والحجب، دون ان تخلي مكانها ومكانتها لغيرها من البصمات.
***
واذا ما تساءلنا عن هوية ثقافتنا العربية الإسلامية، التي هي جوهرها وحقيقتها وثوابتها، فإننا نستطيع ان نقول: ان الإسلام، منذ ان تدينت به أغلبية هذه الأمة قد أصبح هو الهوية الممثلة لأصالة ثقافة هذه الأمة,, فهو الذي طبع ويطبع وصبغ ويصبغ ثقافتها بطابعه وصبغته,, فعاداتها وتقاليدها وأعرافها، وآدابها وفنونها،وسائر علومها الإنسانية والاجتماعية، وفلسفة علومها الطبيعية والتجريبية,, ونظرتها للكون، وللذات، وللآخر,, وتصوراتها لمكانة الانسان في هذا الكون,, من أين أتى؟ والى أين ينتهي؟ وحكمة هذا الوجود وغايته؟,, ومعايير المقبول والمرفوض، والحلال والحرام في المسيرة الحياتية لإنساننا,, كل ذلك - وما ماثله- قد انطبع بطابع الإسلام، واصطبغ بصبغته,, حتى لنستطيع أن نقول، ونحن مطمئنون كل الاطمئنان: ان ثقافتنا إسلامية الهوية، وان معيار الدخول والخروج في ميدان ثقافتنا، والقبول والرفض فيها، هو المعيار الإسلامي.
واذا كان اسلام العقائد والعبادات خاصا بالأغلبية المسلمة من أمتنا، فإن إسلام الثقافة والقانون والقيم والحضارة هو صبغة وصيغة جامعة للأمة كلها، على اختلاف مللها وشرائعها,, وعن هذه الحقيقة-حقيقة إسلامية الهوية- لكل ابناء الأمة، يقول واحد من أبرز المفكرين القوميين -ميشيل عفلق-1328-1409ه، 1910-1989م :لا يوجد عربي غير مسلم,, فالإسلام هو تاريخنا، وهو بطولاتنا، وهو لغتنا وفلسفتنا ونظرتنا الى الكون,, إنه الثقافة القومية الموحدة للعرب على اختلاف أديانهم ومذاهبهم,, وبهذا المعنى لايوجد عربي غير مسلم، اذا كان هذا العربي صادق العروبة، واذا كان متجردا من الأهواء ومتجردا من المصالح الذاتية,, وان المسيحيين العرب عندما تستيقظ فيهم قوميتهم سوف يعرفون بأن الاسلام هو لهم ثقافة قومية يجب ان يتشبعوا بها ويحبوها ويحرصوا عليها حرصهم على اثمن شيء في عروبتهم,,ولئن كان عجبي شديد للمسلم الذي لا يحب العرب، فإن عجبي أشد للعربي الذي لا يحب الإسلام,, (5) .
إذن,, فهويتنا الثقافية هوية إسلامية,, وعلى هذه الحقيقة تجتمع تيارات الأصالة الفكرية والسياسية في بلادنا - إسلامية وقومية- بلسان أبرز منظريها، مسلمين ومسيحيين,.
واذا كنا قد أوردنا شهادة قومية على إسلامية هويتنا الثقافية، فإن كلمات القاضي العادل والقانوني البارز والمشرع الفذ، الدكتور عبدالرزاق السنهوري باشا 1313-1391ه, 1895-1971م في هذه القضية، هي شهادة الاسلاميين في هذا الموضوع,, لقد قال السنهوري: أريد ان يعرف العالم ان الاسلام دين ومدنية حضارة - وان تلك المدنية اكثر تهذيبا من مدنية الجيل الحاضر.
والرابطة الاسلامية يجب ان تفهم بمعنى المدنية الاسلامية، وأساس هذه الرابطة الشريعة الاسلامية.
وفي الاسلام، الى جانب الدين، توجد المدنية، فأما الذين يؤمنون بتعاليم الدين فأولئك هم المسلمون، وأما الذين ينتمون الى الثقافة الاسلامية فأولئك هم أولاد ذلك الوطن الإسلامي الكبير، وقد وسع المسلمين والنصارى واليهود، عاشوا جميعا تحت علم الاسلام طوال هذه القرون,.
وما عسى ان تكون تلك الثقافة الإسلامية؟ أليست هي روح الشرق، تمثلت علوما وفنونا وفلسفة؟ ألم يبن صرح هذه الثقافة عقول شرقية، تنتمي كلها الى الاسلام، وان كان ليس كلها مسلما؟
وبهذا المعنى الأخير يكون الاسلام والشرق شيئا واحدا,, فالشرق بالاسلام، والاسلام بالشرق,, والمدنية الاسلامية هي ميراث حلال للمسلمين والمسيحيين واليهود من المقيمين في الشرق، فتاريخ الجميع مشترك، والكل تضافروا على ايجاد هذه المدنية (6) .
هكذا شهدت وتشهد تيارات الاصالة- الاسلامية والقومية- على إسلامية هويتنا الثقافية.
***
ومع الاسلام، في مكونات الهوية الثقافة، تأتي لغتنا العربية، التي هي لسان الاسلام ووحيه المعجز، والتي ضمن لها القرآن الكريم -منذ نزل بها- امتيازا على كل لغات الدنيا، هو الخلود الذي أراده الله لهذا القرآن، والحفظ الذي ضمنه الله لهذا الذكر الحكيم,, فمع انها -كلغة- هي مواضعات بشرية، إلا ان ارتباطها بالقرآن -المطلق- قد ضمن لها وحققها فيها قدرا عظيما من الاطلاق الذي يتميز به الدين ونبأ السماء العظيم,.
ومع الاسلام، والعربية - في مكونات هويتنا الثقافية- يأتي التاريخ,, الذي تميز هو الآخر- في حضارتنا الإسلامية- بأنه تاريخ الأمة كما هو تاريخ الدين، ووعاء الذكريات الحافظ لخلود الأمة عبر الزمان والمكان,, فهو حتى عندما يؤرخ للوطن فإن الوطن فيه هو شرط إقامة الدين,, وعندما يؤرخ للدولة فإن الدولة فيه هي حارسة الدين، والمسوسة بهذا الدين,, ففي ثقافتنا - كما هو الحال في حضارتنا - هناك امتزاج مابين النسبي والمطلق، لأن الإسلام - بعبارة السنهوري باشا - هو دين الأرض كما هو دين السماء (7) ,, وبعبارة ميشيل عفلق:إن أمتنا لا يمكن ان تستطيب شيئا أقل من مستوى الوحي الإلهي,, الشيء السماوي,, والذي هو متجسد في عقل بشري,, فتجربتها من خلال الإسلام، فيها شيء مطلق,, في حين ان كل شيء في تجارب الأمم الأخرى نسبي، ليس فيه الخلود (8) .
هذا عن ثقافتنا,, والهوية الاسلامية لهذه الثقافة العربية الاسلامية.
|
|
|