Sunday 28th March, 1999جريدة الجزيرة 1419 ,الأحد 11 ذو الحجة


هذا الحنين
سحر الناجي

* لا اصحو الا اذا راودني الليل بأحجية الارق، تارة يجف حلقي بغصة ظامئة,, وتارة ينبت الحنين في صدري اللوعة,, في وحدتي لا يستكين الزمهرير ولا يكل,, لا يجف غمام القهر من عيون المدينة لذلك يجمدني الخمول لبرهة فانساق وراء امنية جامحة بالنوم، اتلبد بالنعاس,, والفتور, وشيء من التعب وعندما يسبل جفني على وحشة قاتمة تهب اوهامي تخترق الحجرة التي كانت الاجواء فيها تبدو مزمجرة,.
هاجسي الليلة يدفن تحت الفزع بكائي,, هاجسي وماجد المسافر منذ ايام,, والحنين الذي يجتاحني للتو، انا وحدي بين سراديب الملل,, انا وحدي يؤرقني الشتات وفيض من القلق كأن نبضي العنيف يزدحم بالحياة الرتيبة حدقاتي تتحسس عتمة دامسة اخذت في هيمنتها ترسم صورا غريبة لجنية الليل المفزعة والقرصان القاتل، ابطال لحكايات جدتي البالية وحين اركل الوهم بالتفاتة من رأسي، يقف في الناحية الاخرى كائن خرافي برأس عفريت وجسد فيل,, على بعد خطوات يحوط المكان دولاب شاهق ومستدير بجانبه ينكمش عدد من الارائك الصغيرة وفي الزاوية الاخرى المنغرسة بالفراغ ظهر فجأة مخلوق صغير كان يتعثر في سيره,, مخلوق يزحف على الحائط وينعكس على جسده ضوء عابر من النافذة فيستطيل ظله المندلع صوب السقف بهيكل لنملة عملاقة لاجل ذلك قفزت من فراشي افتش في خدري عن الممرات الضائعة، اقتربت قليلا من حافة المرآة فاستندت على الجدار خلفها أتلمس طريقي الى الباب كان الظلام يخلع من عيني الرؤية والخوف الذي امطره الليل في دمي يغويني بالخروج فخطوت نحو الباب الموصد اشرعه كي يهبط النور على حواسي الخادرة,, كي أنفلت الى مساحة يترعرع فيها الصخب.
خارج غرفتي راحت الاوحال المحتفلة بعناق الغيث يتسلل عبيرها من الشرفة الجانبية بينما صوت الريح في الخارج يسرف في نزوحه وترحاله يمعن في غزوه للمدينة التي بدت طرقاتها كدروب تنسج وجه الشتاء في عالم يكتنز بطلاسم مثيرة على الجدار الداخلي للقاعة تضج اللوحات الكبيرة بألوان من الماضي قرية وجنان,, وسحب الطرق الملتوية والمتشعبة في الضباب يقطعها وجه قريب لراع كان يغمض اهدابه بشرود، وجه الذكريات التي تنهمر على رأسي اللحظة، وجه باهت لجدتي وحقلها المليء بالصنوبر، اقدام كثيرة تتدافع نحو الطفل المنكمش عند سور الحقل,, اقدام تنزلق حوله وتتكوم، سأل كبير القوم جدتي مشيرا الى الصغير الباكي:
من هو,, وما الذي جاء به الى هنا؟!
قالت جدتي تتوكأ على عكازها الصلب لعله يتيم,, او هارب، وربما انه طفل تائه .
وبعد جدال عقيم، بددت جدتي غيوم الزحام بجملة حاسمة سيبقى هذا الصغير في رعايتي حتى يظهر من يهمه امره .
الخيالات ترتل الذكرى في احداقي الغائمة، قلبي يفيض بخلجة مباغتة اذ تدغدغه رائحة الطفولة العذبة، في قاع الحظيرة كنا انا وماجد نعدو وراء الدجاج والاوز,, نطارد الماعز والقطط,, نقلب الاوعية ونثير الفوضى حتى يظهر خيال جدتي ملوحا بالعكاز,, منذرا بعلقة ساخنة وبما ان ماجد كان يصغرني بعامين,, وبما انه الضيف الذي لا يعاقب فقد كنت انال انا النصيب الاوفر من غضب جدتي,, جدتي التي يسكنني حنانها,, ماضيها المفعم بالاحاجي والرموز امرأة نحيلة وعامرة بالخير الا من نظرة صارمة تتلبد بالعينين,, جدتي كل ليلة تدثرني بأنفاسها وتقول:
انت ابنتي,, وهو الغريب الذي اربيه .
سألتها ذات ليلة ورموشي تستند على نعاس اهوج: هل ستذهبين به الى ذويه يا جدتي؟
همست تغلق عيونا مجهدة ومنهارة: كلا,, سيبقى هنا حتى يجعل الله له مخرجا .
كان عمرا يانعا امتد من مرافىء الطفولة الى جزر الصبا قضيناه انا وماجد في صلة يغمرها العجب، بينما جدتي تراقبنا من وراء تجربتها بتراتيل الحذر,, تتأمل نمونا في الواحات الخضراء ,, بين السواقي وسنابل القمح,, تحت النخيل وكروم العنب الى ان تجاوز عمري الخامسة عشرة, حينئذ طالبتني جدتي بوضع الخمار وعند بوابة الحظيرة الخلفية انهمكنا انا وماجد بتنظيف الرفث بجانب الجدران وبعد قليل وجدته يرمي وجهه على الارض ويسألني دون ان ينظر إلي:
هل ترحلين معي لو ذهبت الى المدينة؟!
هنالك ظهر خيال جدتي من وراء العكاز الخشبي واجما حزينا نادتني في مساء كانت مصابيحه تزفر بالانوار من النافذة وسيلا من الخفقات يلتحف فؤادي كانت لي طأطأة لا تليق الا بخجلي رمقتني الجدة مطولا وقالت:
لقد كبرت,, واصبحت امرأة يا حنين! .
اخذ قلبي يصطلي في انتفاضة ماجنة ودثار من الهلع يغلف انتباهي، رأيت بين اهداب جدتي نظرات ذات معنى كأنها اسئلة تثار ملؤها اللوم والندم حتى غافلتني بتنهيدة صاخبة وقالت:
ماجد ليس ابن الحقل,, وخير لك ان تعتادي على غيابه,,
تخيلت بأن احاجي بشعة تجتاح مصيري,, تخيلت الفراق واللوعة والالم فهتفت بجنون: لماذا يا جدتي,, لماذا!!؟)
تنهدت المرأة النحيلة وخلجة عاصفة تنحت صوتها المرتعش.
لقد آن للغريب,,لأن يعود الى وطنه
في الصباح التالي توقفت عربتان عند سور الحقل احداهما كان يغادرها رجلان مهيبان اخذا بالسير نحو البوابة الرئيسية، بينما قبعت الاخرى على الناصية تنتظر انجاز المهمة، امسكت جدتي بذراع ماجد وشدته الى حيث الرجلين ينتظران قال العمدة بلهجة آمرة: الق بالسلام على والدك يا ماجد!
امتدت يده الواهنة الى يد الرجل المهيب حيث احتضنه بحرارة شديدة ثم بادره بانفعال:
هل نمضي!؟
هنالك افلت يده من يد ابيه وهرول نحوي مندفعا بالهلع قال بصوت يخنقه البكاء:
هل ترحلين معي يا حنين؟
اشتد وجيبي، فنكست رأسي حائرة، عندئذ ارتفع صوت العمدة يناديه، فقال يعدني بالمستحيل:
انتظريني,, سآتي يوما لآخذك الى المدينة ,.
انسكاب الدمع كان يكتظ بالالم القاني على وجهي، هذا الحنين المتورم بين حناياي,, المستشري دوما في عروقي، اخذ يمتد مع تعاقب الايام والسنين حتى احال الانتظار الى حلم ناعم، اما جدتي فاختارت التفاؤل رغم اعوام عديدة مرت على رحيل ماجد في كل مساء تنزوي وحيدة في شرفتها,, تلقي بنظرات مغبشة على الطريق ثم تتنهد سمعتها مرة تهمس مع هطول دموعها:
لن ينساك ماجد يا حنين,, لابد وان يأتي ,.
في ليلة باردة تضاءل فيها الانتظار ووطأة الشوق سمعنا صوتا عند سور الحقل، رجال,, وضحكات,, وضجيج هرعت جدتي الى البوابة تستطلع الخطب فظهر على قامتها الجمود,, وسقط العكاز من يدها ظلت متسمرة في مكانها حتى اقتربت انا الاخرى، فاذا بالمستحيل يتراءى ,, واذا بالحنين يزهر فرحا واشواقا كان ماجد بطلعته البهية يقف أمام الباب مبتسما بادرني بنظرة ساحرة,, وآهة كالحلم:
آه يا حنين,, كم افتقدتكما افتقدت الحقل,, والطفولة,, والايام الرائعة!
وتابع وهو يسرع الخطى الينا ها قد ازف الموعد, فجئت لاصحبكما الى المدينة
الشيء المثير للعجب ان انتظار الجدة وترقبها المترمد بالحزن قد انقلب إلى رفض حاسم بالمجيء معنا، غير انها احتوت فرحتها بنا وباركت زواجنا ثم بقيت في الحقل لاتبارحه الا بزيارة عابرة لنا ذلك ان ذكرياتها وحكاياتها وعمرها الذي هرم كانت يؤنس وحشتها في الليالي الصامتة.
رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الثقافية
الاقتصـــادية
القرية الالكترونية
المتابعة
منوعــات
الركن الخامس
عزيزتي
الرياضية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved