ليس تجنيس الأدب هو ما يشغلنا بقدر ما نلمسه من قلة في منجز المرأة وانحيازها لبعض الانواع الادبية على حساب الاخرى ، كما ان تفاوت الكم الابداعي النسوي على مساحة الإبداع محليا وعربيا,, بل وانعدامه في بعض المناطق المحلية جعلني اطرح الموضوع ليس بهدف الاثارة بقدر ما هو بحث عن اسباب جعلت المرأة غائبة او مغيبة، وحين اتحدث عن الادب الاقليمي فلا يعني ذلك فصله عن أدب الأمة ما دمت اعتقد ان الادب العربي تكاملي بتنوع مصادره وألوانه، والوصول الى تفوق المحلي هو تفوق للأممي في المحصلة النهائية ولأن الكثير من المهتمين بالنقد او الإبداع شغلهم التفكير في هذا الأمر وكانت نتيجة ذلك العديد من المؤلفات من الذكور والإناث، وقد ورد في كتب الادب إشارات للشاعرات عبر العصور وخصصت بعض الفصول في كتب حديثة مثل كتاب - المرأة في الشعر الجاهلي - لأحمد الحوفي وما حدث من تناول لأدبها من جنسها كما فعلت مي زيادة، ونوال السعداوي وحديثا - رشيدة مسعود، ومن اهم ما هو مطروح حاليا كتاب د, الغذامي - المرأة واللغة - الى جانب ما تطرحه المجلات والصحف محليا لكتاب وكاتبات شغلهم أدب المرأة مثل: عالي القرشي ومحمد العباس وفوزية ابوخالد وفاطمة الوهيبي وصديقة عريبي وغيرهم.
وسأعبر من خلال بعض المقولات التي وردت حول أدب المرأة عموما الى ما يشغلني هنا - وهو غياب المرأة الجنوبية عن الابداع غيابا كاملا مما يجعل السكوت عن محاورة الامر معضلة تضاف الى معضلات الأدب المحلي الكثيرة والتي تطرحها الساحة باستمرار في ما يتعلق بانتشار الكتاب الابداعي وتسويقه وقبل ذلك انتاجه.
وقد لا ترى غالبية النساء القادرات ضرورة للتعبير بالكتابة كنص إبداعي ولذلك فهن يستنفدن كل طاقاتهن التعبيرية في الحكي - الكلام الشفاهي,, من منطلق ان الكتابة فعل ذكوري، او امر غير مقدور عليه من قبلهن,, وبذلك نفقد جانبا محفزا ومهما في الفعل الكتابي المحصلي,.
ولأن الكتابة لا يمكن وصفها في عبارات محددة فقد تساءل د, عبدالملك مرتاض في كتابه (1) - الكتابة من موقع العدم ص 306 - هل هي انبثاق من صميم الذات,؟ ام هي إبداع متولد عن اشتات الغير؟، ام هي ارتعاشة سحرية تنفجر من موقع العدم؟ ووصفها بعض النقاد (مثلها مثل الأمومة عطاء كريم، والكتابة عطاء سخي احدهما عطاء جسدي والآخر عطاء فكري,, تختلفان في الماهية وتتفقان في الجوهر).
وهي بقدر ما تكون وسيلة للتعبير، واداة للتبليغ، التحاور، والبناء النفسي والفكري هي غاية لما تحققه وظائفها,,, وما تنطوي عليه نتائجها من الآثار والتأثير في الأجيال، والأمم.
ان الكتابة - امتزاج حتمي بين الذات والغير - والعكس - وبذلك فهي قائمة على النفعية دون حياد ولذلك هي اخذ وعطاء، واستهلاك وانتاج,, وانعزال المرأة أو تحييدها لنفسها جناية تتحمل هي وزرها,, ونتحمل معها وزر السكوت.
وتظل المرأة مطالبة بالحضور المتميز غير المستنسخ كما يشير كل المهتمين بإبداعها.
تقول الشاعرة فوزية ابوخالد (2) : إذا كان من المفترض على المرأة عندما تكتب ان تجترح حرية تتيح لها ان تضيف ذاتها المبدعة وعلاقتها بالعالم، وعلاقة العالم بها الى الخطاب الابداعي) النص الجديد ص 294.
وكذا يرى الدكتور الغذامي (3) : (ان طريق المرأة الى موقع لغوي لن يكون إلا عبر المحاولة الواعية نحو تأسيس قيمة إبداعية للأنوثة تصارع الفحولة وتنافسها وتكون عبر كتابة تحمل سمات الأنوثة وتقدمها في النص اللغوي,,,)- المرأة واللغة ص 55,.
ولأن اسئلة قائمة، وحادة مثل: لماذا لا تكتب المرأة ؟! ومتى تكتب؟! هل ما زال الوأد الاجتماعي والعاطفي وراء محدودية حضورها على مسرح الإبداع؟ أم ان المرأة تركت للرجل الكتابة وأخذت لنفسها الحكي,, كما يرى الغذامي ص 37.
وإذا كانت مقولة مي زيادة (4) (كيف للمرأة ان تتكلم وهي غير موجودة في الكلام) تنطبق على المرأة في الجنوب فإن واقع الحال انها امام معوقات كثيرة تعيقها عن اللحاق بركب زميلاتها في الحجاز ونجد في زمن كانت فيه المرأة الجنوبية أكثر حضورا في المعترك اليومي للحياة فهل يليق بها ان تغيب إبداعيا؟!
والمتتبع للساحة الادبية المحلية يجد اسماء جنوبية لامعة من الذكور بينما لا يجد الانثى (دخلت مدينة الكتابة الباهرة وشوارعها المفتوحة (5) ) إلا من رضعت ثقافتهاخارج الجنوب.
واذا كان د, الغذامي (6) قد رصع كتابه بعبارات كثيرة مثيرة مثل (الكتابة عند المرأة هجرة من الموطن الى المنفى - والانتقال من المقر الساكن الى الموطن المتحرك - والكتابة قلق، والقلق يعني الوعي بالوجود),, فإن توقف المرأة عن محاورة الواقع كتابيا، وصرف حياتها في المستهلك حكيا كان او ممارسة يعني تعطيل نصف المنجز الفكري للأمة الذي يؤدي الى تدني المستوى في منجز النصف الذكوري.
والمرأة الجنوبية بالذات في ظل الغياب الكامل تعاني من عوائق كثيرة ربما كان اهمها تأخر التكون الثقافي الذي ما زال يبحث عن كيفية ممكنة للتبلور، فحين نعلم ان المرأة في الحجاز لم ينقطع اتصالها بالثقافة بسبب تواصلها الاجتماعي والثقافي المتواصل مع مصر والشام فقد حصلت النجدية على نصيبها من التعليم مبكرا قياسا بالجنوبية,, ففي عام 1377ه كانت جامعة الملك سعود قد أشرعت ابوابها للعلم بينما فتحت فرعها في الجنوب عام 1397ه، أي بعد عشرين عاما، ولأن الثقافة المحيطة بالمرأة الجنوبية لا تزال تعتبر ذكر - اسم المرأة - عيبا أو مهانة حيث جرت العادة بمناداة المرأة - بيا ولد - في الظروف العادية بمعنى ان تذكير المرأة يعتبر من العوائق الكبيرة امام تعبير المرأة ونشر اسمها,, وليست الجنوبية وحدها من عانت من هذه العقلية فما عانته المرأة بشكل اشمل تظل الاسماء المستعارة - بنت الجزيرة - غيدا المنفى - وما شابههما شاهدة عليه وما كان ينتهجه بعض الكتاب امثال العواد والانصاري من نشر مواضيع تحت اسماء الأنثى تحفيزا لها على الكتابة والنشر يعكس بجلاء العوائق التي واجهتها المرأة محليا,.
واليوم ونحن نقرأ ما تبدعه المرأة نجد اعترافا مؤثرا يتمثل في قول الكاتبة فوزية ابوخالد (7) (إنه لا مفر من الاعتراف بأن هناك نصفا مقموعا في الخطاب الإبداعي عامة لم تستطع كتابة المرأة ان تجسّر فجواته التاريخية والاجتماعية العميقة بمشاركتها الإبداعية التي تحققت حتى الآن ويتمثل ذلك في غياب الصوت الحسي والروحي لتجربة المرأة المعيشة، للغتها الانثوية، لرؤاها وبالتالي لأخيلتها,,) هذا ما يقوله الصوت المسموع فماذا يقول الصوت المقموع؟!!
انني وانا اطرح الموضوع عن غياب المرأة الجنوبية لا يمكنني الخروج من الموضوع دون توجيه تهم أشرعها في وجه الغياب المر نابعة من التقسيم الذي وزع الادوار بين الاجنحة والجذور,,, الموازين المائلة,, الدور الهامشي,, والذي ظلت المرأة حبيسته.
واول المتهمين هنا هو التعليم الذي لم يستطع تفجير نهر الكلمات عندها بل لم يسعفها لتجاوز محنتها مع الصمت.
النظرة للمرأة من خلال ذاتها ومن خلال مجتمعها فهي ترى انها غير معنية بالابداع,, وربما احست انها غير مؤهلة لفعل شيء في هذا المضمار فارتأت الصمت وآثرت السكوت مأخوذة بالانصراف عن محاورة المكتوب الى العناية بالمظهر المحقق للطموح الانثوي والرغبات الذكورية كالطبخ والازياء والموضة.
تغافل المرأة عن دورها في هذا المجال الحيوي واعتبار نفسها فضلة في محاورته يتلبسها الشعور في عدم مقدرتها على مجاراة الرجل في مضماره فضلا عن التميز والتنويع.
(واذا كانت الكتابة الابداعية بحد ذاتها نشاط انساني غير عادي لا يقوم الا على الاستقلال والابداع (8) كما تقول فوزية - فإن حدوث الغياب يثير الجدل عن دور المكان والزمان ففي المجتمع الجنوبي المتنوع وفي زمن الانفتاح المعرفي تبقى المبدعة الجنوبية غائبة تعاني من شروط زمانية تعود لمفهوم موتور العلاقة، وشروط مكانية ضيقة كافية لاجهاض المحاولات النابتة.
(وإذا كان انتاج المرأة الابداعي يعاني من سلطته الانثوية نفسها بمفهومها الخضوعي الطفولي كما يعاني من سلطة الانماط السائدة واشكال تسلطية اخرى (9) فإنها هنا تعاني من كابوس التغييب الإرادي النافي لوجودها ككائن متفاعل مهما تعللت بتهميش اهمية الكتابة وبأنها ديكورية صحفية ليست في حاجة لها,, او هي سلطة تخرجها الى اقلام الرجال لتبدأ معركة لا ترى لها فائدة غير العنت ولا تحسن التعامل معها,,, او انها هواية عابرة مرهونة بمرحلة الفورة الشبابية لا طائل من ممارستها.
هامش المراجع:
(1) الكتابة من موقع العدم - عبدالملك مرتاض مؤسس اليمامة الصحفية 1419ه ص 306.
(2) النص الجديد ج6/7 - موقع كتابة المرأة - فوزية ابوخالد ص 294.
(3) المرأة واللغة - د, عبدالله الغذامي - المركز الثقافي العربي عام 1996م ص 55.
(4) من كتاب المرأة واللغة - مي زيادة ص 127.
(5) المرأة واللغة ص 134.
(6) المرأ واللغة ص 135.
(7) النص الجديد 6/7 ص 291.
(8) النص الجديد 6/7 ص 302.
(9) النص الجديد 6/7 ص 305.
|