Sunday 28th March, 1999جريدة الجزيرة 1419 ,الأحد 11 ذو الحجة


قراءة في سيرة هرمان هسة الذاتية

هرمان هسة روائي كبير مؤلف ذئب البوادي - لعبة الكريات الزجاجية - سد هارتا- تحت العجلة- رحلة الى الشرق, لقد اعتبر غوتيه ان كتابات الكاتب ما هي إلا اجزاء من الاعتراف العظيم وهذه هي خصوصية هذا الروائي الذي يختفي خلف شخوصه في بعض الأعمال يظهر هذا بوضوح كما في رواية رحلة الى الشرق 1932 حيث يكون الاسم ه,ه,, وهذا يشير الى حرفي اسمه هرمان هسة وايضا في روايته ذئب البوادي 1927 حيث نرى هاري هالر,, أوف في روايته تحت العجلة 1906 اسم هرمان هيلنر.
كل هذه الاسماء تشير الى شخصية المؤلف,, هرمان هسة,, سيرة ذاتية هو الكتاب الذي ترجمته الى العربية محاسن عبدالقادر وصدر عام 1993 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت وفيه جانب هام عن حياة هسة حيث يلقي الكاتب الضوء على تفاصيل حياته الشخصية وعلى رواياته ويقول مالم يستطع ان يقوله في الرواية وقد قسم المؤلف سيرته الذاتية هذه الى العناوين التالية حسب الزمن غير المتسلسل:
طفولة الساحر 1923- من أيام مدرستي 1926- عن جدي 1952- قصة حياتي باختصار 1925- ذكرى من الهند 1916 بيدوروتالا كالا 1911, نزيل في المنتجع 1924- الرحلة الى نورمبرج 1926- الانتقال الى منزل جديد 1931- ملاحظات حول العلاج في بادن 1949- الى مارولا 1953- أحداث وقعت في انجادين 1953.
يعيد هرمان هسة سبب اندفاعه الى الكتابة الى سنوات الطفولة حيث حلم بأن يكون ساحرا فيستطيع ان يفعل مالا يقدر عليه في الواقع ومالم تسمح به طاقته العقلية والجسدية لذلك تملكتني رغبة ملحة لتغيير الواقع بالسحر وتبديله والرقي به وفي طفولتي اتخذت رغبتي في السحر اتجاها نحو أهداف خارجية صبيانية كنت أود أن اجعل شجرة التفاح تثمر في الشتاء وأن تمتلىء محفظتي عن طريق السحر بالذهب والفضة وبواسطته حلمت بشل أعدائي وبالحاق العار بهم ولكن بشهامة لأتوج بعدها بطلا وملكا,, أردت أن اكون قادرا على أن اجد الكنوز الدفينة وعلى جعل نفسي لا مرئيا واعتبرت قدرة المرء على اخفاء نفسه أكثر القدرات أهمية وتقت لامتلاكها بشدة ويعترف هسة بأن الكتابة استطاعت ان تخلصه من هذا الهاجس حينما كبر واكتشفها: فبعد ان كبرت بمدة طويلة وزاولت مهنة الكتابة حاولت مرارا ان اتواري خلف مخلوقاتي واعيد تعميد نفسي متخفيا بمرح خلف اسماء مبتكرة وقد جعلت هذه المحاولات زملائي الكتاب كثيرا ما يسيئون فهمي ويعتبرونها مأخذا عليّ عندما انظر الى الماضي, أرى كيف تغيرت اتجاهات هذه الرغبات السحرية بمرور الزمن وكيف حولت جهودي تدريجيا من العالم الخارجي وركزتها على نفسي، وكيف طمحت لاستبدال العبارة السحرية الساذجة وقدرتها على الاختفاء بقدرة اختفاء الحكيم الذي يرى كل ما حوله ويبقى هو غير مرئي دائما هذا التوق الذي اصبح فيما بعد المضمون الحقيقي لقصة حياتي .
ويرى ثيودور سيولكوفسكي الذي قدم هذه السيرة ان هسة سواء كان يكتب رواية أم سيرة ذاتية ينتهي دائما الى ما يدعوه مملكة الروح السرمدية التي تقيم خارج الزمان والمكان وتتجاوز الرسم فوق جدار السجن,, ولو أخذنا عنوان احد اعماله الأولى ساعة بعد منتصف الليل نجد ان الاختلاف الرئيسي في عقل هسة وعمله لا يقع بين الحياة والفن أو بين الحقيقة والخيال بل بالأحرى بين واقع الروح المليء بالمعاني والعالم اليومي الزائل الذي أطلق عليه الواقع أو الواقع المزعوم .
وحالما نفهم كم هي حقيقة على نحو قوي المملكة الروحية هذه بالنسبة لهسة نصبح في وضع يؤهلنا لاستيعاب الاختفاء المتكرر في اعماله للحواجز الاعتباطية القائمة تقليدا بين السيرة الذاتية والرواية ورغم ان جميع الأعمال الكاملة لهسة هي سيرة ذاتية الى حد كبير فلم يكن من قبيل الصدفة انه لم يبدأ بكتابة نماذج للسير الذاتية حقا إلا في اربعيناته وقد فعل ذلك للمرةالأولى وبشكل مفاجىء وكما جاءت الحقيقة على لسانه هو حيث يذكر انه امضى سنوات قبل ان يعي كم كانت أعماله معتمدة بشكل ذاتي على ظروف حياته,, وفي عام 1921 طلب منه ان يحضر طبعة مختارة من أعماله فأعاد قراءة الكثير من رواياته الأولى واشار وهو مندهش كل هذه الحكايات كانت عن نفسي فهي تعكس طريقي الذي اخترته احلامي ورغباتي السرية وحزني المرير الذي عانيته وحتى هذه الكتب التي حين كتبتها كنت أفكر بأمانة بأنني كنت اصور مصائر غريبة وصراعات بعيدة عن نفسي تغنيت بنفس الاغنيات وتنفس الهواء نفسه وعبرت عن ذات المصير,, مصيري أنا بعد هذه المرحلة سيرتب هسة حياته على ضوء ماضيه الذي اصبح بين يدي الآخرين,, وسينظر الى وعي أعلى وأذكر ان هرمان هسة قد ولد في الثاني من تموز عام 1877 وتوفي في التاسع من آب عام 1962 هذه السيرة غطت معظم مراحل حياة هسة وهي هامة لتفسير أدب هذا الروائي, يتحدث هرمان هسة عن تفاصيل حياته على النحو التالي,, ولدت قرب نهاية العصر الحديث مثل عودة العصور الوسطى بفترة قصيرة تحت علامة برج الرامي في طالعي كوكب المشتري في حالته الواعدة حدث مولدي في ساعة مبكرة من مساء يوم دافىء من شهر تموز فقد أحببت وبحثت طيلة حياتي وبلا وعي عن حرارة تلك الساعة من ذلك المساء وحين لا أجدها كنت أفتقدها بشدة فلم أتمكن من العيش في بلدان باردة وكانت جميع رحلاتي الاختيارية تتجه نحو الجنوب ومع أني استسلمت فيما بعد وبشكل لا رجعة فيه الى اغواءات العالم الغبي حتى اني عاقبت حواسي بشدة وأهملتها لوقت ما إلا انه رافقتني دائما خلفية هذا الانغماس الحسي المرعي بعناية فائقة وخصوصا فيما يتعلق بالنظر والسمع ولعبت دورا حيويا في عالمي الفكري حتى لو كان يبدو مجردا وهكذا فقد زودت نفسي كما ذكرت بقدرات معينة كي أواجه الحياة , ما يميز سيرته هنا ان كاتبها هو رجل يكتب في مرحلة سكينة الشيخوخة وهي قريبة الى حد كبير من الاعترافات الكبرى وأحيانا يتحدث بأسلوب الحكيم الطاعن في السن لأبنائه وأحفاده مثال ذلك ما ورد في نزيل في منتجع يقول: السنا موقنين ان قدرنا هو أمر غريزي لا مفر منه إلا نتشبث رغم ذلك بشكل عاطفي بوهم الاختيار والارادة الحرة ألا يكون اختيار المرء لطبيب يعالج أمراضه ولحرفة يمتهنها ومكان لسكناه وانتقائه لعروس أثيرة على قلبه وهو ذات الأمر وربما أوفر نجاحا لو ترك التصرف للصدفة المحضة ألم يختر الشيء نفسه ألم يكرس قدرا كبيرا من العاطفة والجهد والعناية لكل هذه الأمور وهو يفعل ذلك بسذاجة مؤمنا بحماس طفولي في قوته الذاتية ومقتنعا بأنه يمكن ان يكون للقدر تأثير عليه أو من المحتمل أن يقوم بهذا بدافع الشك مقتنعا في أعماقه بعبث جهوده ولكنه في الوقت نفسه موقن ان العمل والجهد والاختيار وعذاب النفس هي أفضل وأكثر حياة وأكثر جاذبية أو على الأقل أكثر متعة من التحجر في الاستسلام بإذعان .
ان قارىء روايات هسة سيجد اكتشافا حقيقيا لخلفية رواياته وربما سيفكر بمشروع اعادة قراءة هذه الروايات فهسة يمثل طريقة خاصة في الحياة فأزمة نضوج هسة الروحية تعكس أزمة وعي العديد ممن تخطوا الثلاثين من العمر والذين اجبرتهم احداث العقد الماضي كالحرب والفقر والتكنولوجيا الى اعادة تقييم قيمهم وهسة الأكبر سنا والأكثر خبرة هنا يشبه الحكماء الجليلين.
عبدالباقي يوسف

رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الثقافية
الاقتصـــادية
القرية الالكترونية
المتابعة
منوعــات
الركن الخامس
عزيزتي
الرياضية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved