المرجو أن يعذر القارئ الكريم العودة إلى موضوع سبق ان تطرقت إليه هذه الزاوية عرضاً، عند الحديث عن إبراهيم الشورى (الحلقة 10) والمؤرخ الكويتي عبدالعزيز الرشيد (الحلقة 25)، إذ ان هذه الزاوية تنتهز فرصة موسم الحج، لعرض تجربة اعلامية في مجال الدعوة الإسلامية، لا تخلو من الفائدة، مرت بها المملكة قبل ستين عاماً (أي خلال حكم الملك عبدالعزيز رحمه الله).
فمن المعروف ان حجاج الجاوة - بلاد الملايو، وهي حالياً اندونيسيا وماليزيا وسلطنة بروناي وما جاورها - كانوا يشكلون نسبة معتبرة من الحجاج تماثلها نسبة حجاج الهند (قبل قيام دولتي باكستان وبنغلاديش)، والذي حدث بعد دخول منطقة الحجاز في الدولة السعودية (1344ه) وتعميم تطبيق الشريعة الاسلامية وحدودها الشرعية فيها، ان انتشرت دعاية مضادة في بلاد الملايو تشوّه سمعة الدولة السعودية الجديدة، ويقول د, يعقوب يوسف الحجي، الذي ألف كتاباً جيداً عن سيرة المؤرخ الكويتي عبدالعزيز الرشيد، إن هذه الدعاية قد تسببت في انخفاض حجاج الجاوة من (25) ألفاً سنة 1347ه إلى (7) آلاف فقط، وأن إجمالي عدد الحجاج (من الداخل والخارج) قد انخفض من (220) ألف إلى (105) ألف حاج في عام 1349ه.
كان الحج، في ذلك الوقت يمثل ركيزة مهمة في اقتصاد الدولة السعودية، وكان نجاحه وما يزال، دلالة على انتشار الامن والاستقرار في ربوع الحجاز، ولذلك كان الملك عبدالعزيز، يدرك مدى أهمية ارتفاع عدد الحجاج، وتأثيره الايجابي على اقتصاد البلاد وعلى مكانتها وسمعتها، ولذلك بادر إلى تبني حلول يعتمد بعضها على اسس إعلامية، إذ أرسل مبعوثين في مهمات اعلامية إلى عدد من الدول الاسلامية (إندونيسيا والهند) ومجاورة (مصر) وغيرها، للدعوة، ولشرح مواقف المملكة الجديدة ومنهجها، وتأكيد أمن الحج وسلامته، وتوضيح حقيقة التوجهات الدينية - المذهبية - للدولة السعودية.
كان من هؤلاء الرسل والمبعوثين، المؤرخ والصحفي الكويتي عبدالعزيز الرشيد، والشاعر الكويتي محمود شوقي الايوبي، والداعية السوداني الاصل أحمد محمد السوركتي، وعبدالحميد الخطيب، الذي اصبح فيما بعد سفير المملكة في باكستان، وكان ممن يجيد اللغة الملاوية، وقد قام كل منهم، وبطريقته الخاصة، بجهود مختلفة ومتنوعة، عبر اللقاءات والحوارات والندوات والمقالات واصدار الصحف (بين عامي 1350 و1360ه) لمواجهة ذلك الزخم من الصحف، التي كان يصدرها بالعربية بعض الحضارم النازحين الى هناك، وبعض اصحاب الطرق والمذاهب الاسلامية في اندونيسيا.
ولان هذا الاجراء لم يسهم كثيرا في رفع عدد الحجاج، فإن الملك عبدالعزيز لم يكتف به، فأمر في عام 1355ه بانشاء مجلس للدعاية للحج، وقد سبق لهذه الزاوية ان أشارت الى اختيار إبراهيم الشورى وكيلا لهذا المجلس، الذي تحوّل إلى مديرية ثم إلي مصلحة تابعة لوزارة المالية أسوة بمديرية الحج نفسها، وقامت بالعديد من الجهود الاعلامية، لعل من بينها إصدار مجلة النداء الاسلامية، التي رأس تحريرها مصطفى أندرقيري، وكانت تحرر بالعربية والملاوية (1356ه) مطبوعة في مكة المكرمة، وتهدف الى تقوية العلاقة بين الشباب السعودي والشباب الاندونيسي.
كما قامت تلك المصلحة بطباعة العشرات من الادلة الارشادية عن الحج ونفقاته والتسهيلات المتوافرة من اجله، ونسقت جهود انتاج فيلم الحج سنة 1357ه (والذي سبقت الاشارة إليه في الحلقة (27) من هذه السلسلة) وهو الذي يظهر فيه الملك عبدالعزيز - يحيط به عدد من انجاله - يلقي كلمة موجهة الى عموم المسلمين.
ويعتقد كاتب هذه السطور، ان تلك المديرية او المصلحة، قد دمجت مع مديرية الحج لاحقاً، بعد ان ادت الغرض من إنشائها، فلقد ذكر الزركلي اسم (مديرية الحج والدعاية له) ضمن تشكيلات وزارة المالية، والتي عملت فيما بعد (سنة 1366ه) على إصدار مجلة الحج التي مازالت تصدر وكانت تطبع بعدة لغات، من بينها الملاوية.
هذه قصة مبعثرة لانشاء مجلس الدعاية للحج، والمرجو ان تسعى وزارة الحج في جهودها التوثيقية بمناسبة الذكرى المئوية لتتبع المزيد من المعلومات عنه، وبخاصة فيما يتصل بعلاقته مع مديرية الحج، ومجلة النداء الاسلامي، واصدار مجلة الحج، والجهود الاعلامية والدعوية التي بذلت في بلدان اسلامية اخرى، وبشكل خاص في الهند ومصر، والتي تمت جميعها في عهد الملك عبدالعزيز، رحمه الله.
وهي معلومات، تفسر سبب قيام الاذاعة السعودية، فور افتتاحها في حج عام 1368ه بإنشاء اذاعتين موجهتين للناطقين، محليا وخارجيا، باللغتين الاندونيسية (الجاوية) والأردية المستخدمة في شبه القارة الهندية, كما تفسر الترابط بين الاذاعة والحج، لدرجة انهما دمجا في مديرية واحدة في عام 1372ه ولمدة عامين تقريبا، وذلك بأمر ولي العهد سمو الأمير سعود، رحمه الله.
(الحلقة القادمة:
الحافظان - علي وعثمان حافظ)