Saturday 27th March, 1999جريدة الجزيرة 1419 ,السبت 10 ذو الحجة


مع التربويين
التربية بالعبادة، العيد وأثره التربوي
د, عبدالحليم بن إبراهيم العبداللطيف

يقول علماء التربية من المسلمين المجيدين، إن الايمان الحق ليس قولا يقال ولا دعوى تُدعى، إنما هو حقيقة حية بهية شهية يمتد شعاعها إلى العقل فيقتنع وإلى العاطفة فتحيا وتجيش، وإلى الارادة الحازمة فتتحرك وتحرّك، يصدّق ذلك كله قول الرسول صلى الله عليه وسلم ما وقر في القلب وصدقه العمل وعماد التربية الاسلامية القلب الحي الموصول بالله تبارك وتعالى الموقن بحسابه وجزائه الراجي لرحمته، من اجل ذلك اهتمت التربية الاسلامية كثيرا بإحياء القلوب حتى لا تموت، وعمارتها حتى لا تخرب، وترقيقها حتى لا تقسو، إن ربط المسلم بشعائر دينه له معنى هام وكبير عند التربويين المسلمين ليرتبط بالتالي وبقوة بخالقه، فهو يقضي وقتا سعيدا وممتعا وأخّاذا يتدبر ويفكر، ويذكر الله، يفكر في حاله ومآله وفعاله حيث قضى وقتا وعمرا مديدا في اللهو والسهو والغفلة والإعراض احيانا، او في مشاغل ومشاكل دنياه حينا آخر، ولقد حانت الفرصة الذهبية ليروح عن نفسه بالطاعة وهجر المخالفة ويكفر عن ذنبه بأعمال وأفعال العيد الخيرة، ومن ذلك الاضحية، من اجل هذا اشتمل العيد على العديد من الوصايا والشعائر والمناسك التي تجعل له رسالة اجتماعية سامية إلى جانب انه مناسبة اسعاد وبهجة، لابناء الامة الاسلامية مع اختلاف الاعمار والاحوال والمستويات، والمسلم الفذ يعيش توازنا دقيقا بين مطالب جسمه وروحه، وهو يهفو دائما الى ما يحفظ عليه دينه، رأس ماله وإلى ما يحفظ عليه جوهره الاصيل ومعدنه وأصله النبيل يحفظ عليه صفاءه ونقاءه وبريقه ولمعانه، والملاحظ تربويا ان طاعة الله تقوم بوظائف عدة، ليكون صاحبها ربانيا حقا قوي الفكر والعقل، والبنية سليم النية حي المشاعر نظيف التوجهات، وغاية العبادات في الاسلام ليس مجرد التقوى السلبية (وما أكثرها مع الاسف الشديد بين بعض المسلمين) حيث العبادات تربويا تقوم بواجبات ووظائف عدة عاجلا وآجلا، إنها تتجه إلى النفع الانساني العام، كما تسعى إلى ايجاد امة نابهة ناهضة فاضلة متكاملة، امة غير متباغضة ولا متباعدة ولا متنازعة، للعبادة اثرها التربوي الكبير فيه في صفاته وصلاته وأقواله وأفعاله في جميع حياته ومدخله ومخرجه في شخصه وذاته، بحيث تصبح صفته المميزة، وعلامته الظاهرة، كما ان التربية الاسلامية الاصيلة تكسب صاحبها عزة معنوية، وصلابة في دين الله، وقوة بدنية ومعنوية، مع السمو بالذات العلية إلى اشرف الغايات وأعلى المقامات، ترفع صاحبها عن الشهوات المذلة والطبائع البهيمية, والاعياد لدى المسلمين ايام معلومة ومواسم كريمة تمر على الامة فتسعد بها لارتباطها بما تحبه وتجله من ذكريات عزيزة ومواقف كريمة وشعائر جليلة، فإذا أتى عيد من الاعياد الاسلامية تحركت عواطفها ونبل طبعها وتعمق ايمانها وانبعثت مشاعرها، ومن طبيعة الاعياد انها تتسم بتوفيق الله بالفرح والسرور والهناء ومشاعر الصفاء والحبور، والمسلم فرحته ايمانية منضبطة ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء , هكذا يكون فرح المؤمن بقيام هذا الدين وعلو شأنه وتوطد اركانه لافرح العابثين واللاهين والمفرطين، واعياد المسلمين تأتي بعد نصر مؤزر، فوز كريم وعمل صالح وتكون نهاية لمرحلة من مراحل السداد في امور الدين أو الدنيا والله سبحانه جعل الفرح والسرور في الدنيا والآخرة من خير ما يجده المسلم ويرفع شأنه ويعلي مكانه حيث انه من عند الله (فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا) والمسلم منضبط دائما وأبدا في أقواله وأفعاله وجميع صفاته وسماته تربى على القصد والاعتدال بتوسط ويقارب لانه من امة جعلها الله في الوسط، والله يقول موجها ومحاسبا (إن الله لا يحب الفرحين) اي الذين يكثر فرحهم بالدنيا وحطامها وأحلامها وأوهامها وينسون الآخرة وحقيقتها وتباين الناس فيها, ومن الملاحظ ان اعياد المسلمين تأتي بعد مناسبات هامة وأعمال خيرة كثيرة، فعيد الفطر مثلا يأتي عقب مدرسة الصيام والقيام وقراءة القرآن وتقديم ما تيسر تقديمه من الصدقات ومختلف انواع الطاعات، والوقت بين العيدين الفطر والاضحى، ليس بالطويل، فما يكاد المسلم يفرغ من راحته ومحطة استراحته حتى يعود الى عمله الجاد والمنظم دينا ودنيا، ثم يتسعد لموسم الحج، وعيد الاضحى، وما في العشر الاول فيه، اي من شهر ذي الحجة اعني ما فيها وما شرعه الله خلالها من طاعات كما ثبت ذلك في السنة الصحيحة، ثم بعد ذلك تطل عليه اضواء الهجرة، وما فيها من عبر ودروس عملية ذات تربية عالية ومضيئة لدربه الطويل، وهذا التنظيم الدقيق لأعياد المسلمين ضبط تام لمسار المسلم فالمسلم جاد ومنتج وعملي هكذا تكون التربية الحازمة، فإذا أتم عمله وقف وقفة قصيرة ومنضبطة، يأخذ نصيبه من الهدوء والراحة ثم يعاود العمل الجاد المثمر بكل حزم وعزم، وهذا دأب المسلم لا يرهق نفسه بالعمل ولا يضيعها بالكسل انها تربية عالية المستوى عظيمة المحتوى نظيفة المناهج والبرامج ولكن نقول كما قال القرآن في مناسبة تربوية اخرى (ياليت قومي يعلمون) (ياحسرة على العباد) نعم الحسرة على بعض العباد الذين لديهم المنهل العذب والتربية المثلى، ثم يلتقطون من زبالة القوم ما يُربيهم ويضيع تربيتهم وتربية اجيالهم، نعم نقول كما قال القرآن (ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم) اما الصالح وغير المتعارض مع ما لدينا فلا ونحن بالخيار لكن بعد النظر وشدة الحذر، وما الاعياد في الاسلام إلا واحة خضراء ظليلة مبهجة مريحة يجد المسلم فيها وارف الظل ونمير الماء والمسلم الذي تربى على مائدة القرآن يحسن المزج بين مطالب نفسه وأشواق روحه، بين المتعة الحلال وبين قوة الاتصال بالله فلا يقطع حبل الصلة بالله ولا ثانية واحدة فهو عبد مربوب لواهب النعم ومصدر الكرم جل وعلا، ومن الملاحظ مع الاسف الشديد ان الاعياد لدى بعض المسلمين سهو ولهو وتفريط وضياع للنفس والوقت والمال والجهد والطاقة أيا كانت وهذا قصور تربوي ونظرة ضيقة، والمسلم يعيش دوما تحت تربية قرآنية عالية (كلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) وإذا كانت الاعياد الاسلامية افراحاً موزونة فلماذا السرف وحولك من هم بأمس الحاجة الى عطائك ورفدك وقد يكونون من اقرب او احب الناس اليك وخير المسرات ما عمت الجميع، وهل ذلك العربي القح الذي لم يتعلم في مدرسة ولا ارتقى في مدرج جامعة هل هو انبل وأكمل من بعض التربويين اليوم خاصة وبعض المتعلمين عامة في دنيا الناس، يبدو ذلك حيث قال: وأجاد
فلا نزلت علي ولا بأرضي
سحائب ليس تنتظم البلادا
فالمسلم تربويا ليس ملكا لذاته ولا لملذاته وملهياته ومغرياته بل يتنزه تماما عما لا يليق بالعقلاء والفضلاء وبهذه التربية المثلى تعتدل الحياة ويستقيم امر الناس, ولذا قيل
تَعَوّدصالح الاخلاق إني
رأيت المرء يألف ما استعادا
وإذا سبرنا أحوال الناس قديما وحديثا وحتى الحيوانات والعجماوات لوجدنا الكل يبحث عن السعادة، وأنى لهم بذلك بدون الايمان واليقين والثقة برب العالمين، ولقد تعددت اقوال المختصين فيها، والظاهر انها واصلة دنيا وأخرى لعباد الله الصالحين والعيد السعيد ان شاء الله يذكرنا دائما بلفظه ومعناه وما نلحظه فيه بالعود السعيد بحول الله إلى فعل الخيرات وبذل المكرمات وطلاقة الوجه وحسن الاستقبال، والعرب تقول عاد فلان بمعروفه إذ أحسن ووفى، ومن صفات الله تعالى انه (المبدئ المعيد، الفعّال لما يريد) يبدأ الفضل والاحسان ثم يعيده وعيدنا هذا العام يصادف فصل الربيع الفصل الذي فيه تورق الاشجار وتصدح الاطيار تحيا فيه الارض بعد موتها وفي ذلك عبرة وذكرى والمسلم الواعي الفطن المدرك لربيع الديار عليه ان يبحث عن ربيع قلبه فينهض الى الخيرات ويسارع الى المسرات مسعدا غيره ممن لا يستطيعون ذلك يبعث مشاعره وأحاسيسه الخيرة ويطلق لروحه اشواقها ويخلصها من اوضار المادة وقيد الشهوة او الشهرة، ويعتبر نفسه بدون ما ذكر نفسا ميتة وتربيته ناقصة وقاصرة فهل يدرك الكثير من التربويين معنى ومغزى العيد في الاسلام، وهل نستطيع بتربيتنا الاصيلة لا الدخيلة ولا الهزيلة ان نطبع شباب الاسلام بطابع التعاون والتراحم والتلاحم والبذل والفضل والنبل فيصبح لدينا تربية مثلى قرآنية المنهج سليمة المدخل والمخرج أم نرتع ونجمع ونغير ونبدل ونتيه بين اقوال البشر وتكون النتيجة كبعض شباب الاسلام شرقا وغربا (لاسمح الله) وأرجو ألا يكون بيننا ذلك ومنهم مثلا:
1- شباب نشأ في بعض ديار الاسلام على قصور تربوي نشأ على الدلال والميوعة وقصر النظر وقلة الحذر وعدم المبالاة والسلبية المميتة.
2- شباب نشأ على الجهل بالدين فبعد عن الاخلاق الكريمة والطباع السليمة.
3- شباب نشأ متكبرا متعجرفا لا تعرف له طريقا معينا لا يشارك مشاركة فاعلة ولا يهتم بمن حوله ولا حتى والديه وأهله واخوانه، يعامل الناس بجلف وصلف وعدم اهتمام.
4- في بعض ديار الاسلام هناك شباب، يفهم الدين من خلال الخرافات والاقاويل الباطلة والدعاوى الكاذبة، او من كلام اهل البدع والاهواء، يعيش بعيدا عن العلماء العاملين، لم ينهل من معين صاف، ولم يسلك مسلك جماعة المسلمين، وعلماء التربية من المسلمين يؤكدون انه لابد من ان يُنظر في فهم المتعلم، ومقدار عقله، فلا يعطى مالا يدركه ولا يفهمه ولا يحيط به عقله.
5- ومنهم من نشأ ضائعا مضيعا، فلابد إذاً من التوجيه السليم والحكمة والدعوة برفق ولين, واعياد المسلمين فرصة ثمينة ومناسبة كريمة للمراجعة والمحاسبة وضبط النفس امام المغريات والمثيرات كما انها مجال رحب وواسع لمختلف المشاركات الخيرة والعطاءات المفيدة, والمسلم الحق بتربيته المثلى ينعتق من الاثرة إلى الإيثار, هكذا ينبغي ان نكون وان نظهر في اعيادنا الاسلامية بمظهر الامة الواعية المدركة الخيرة الكريمة, وعند ذلك يجد المسلم للعيد طعمه وفرحته, نصر الله المسلمين بدينهم وهداهم سواء السبيل.

رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
الركن الخامس
عزيزتي
الرياضية
العالم اليوم
مئوية التأسيس
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved