* الرياض - الجزيرة
في إطار البحوث المقدمة لمؤتمر المملكة العربية السعودية في مائة عام تطرق معالي الاستاذ الدكتور/ عبدالله بن محمد الفيصل، مدير جامعة الملك سعود إلى الاقتصاد والتجهيزات الاساسية منذ عهد المؤسس جلالة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود طيب الله ثراه مستعرضا في بحثه ما كان عليه الواقع الاقتصادي والمالي بمقاطعات المملكة قبل التأسيس والوضع الاقتصادي والمالي بشكل عام منذ بداية التأسيس حتى بداية تصدير النفط بكميات تجارية، وأثر اكتشاف النفط وتصديره في الوضع الاقتصادي للمملكة، وكذلك استعرض خطوات إعادة الهيكلة الادارية المالية بعد التوحيد التي شملت صدور الانظمة المالية وتكوين الادارات الاقتصادية والمالية والارث الاداري المالي الذي تركه الملك عبدالعزيز لأمته كقاعدة واساس لما أعقبه من تطور,.
الوضع الاقتصادي والمالي قبل توحيد المملكة
عاشت مقاطعات المملكة قبل خضوعها للحكم السعودي اوضاعا مختلفة في النواحي الادارية والاقتصادية والمالية، ولقد تأثرت كل واحدة منها بعوامل داخلية واخرى خارجية، أما العوامل الداخلية فيمكن إجمالها في النسيج الاجتماعي للمقاطعة، الموقع الجغرافي، والموارد الاقتصادية المتاحة, أما العوامل الخارجية فأهمها درجة الاتصال الخارجي (مقاطعات الساحل) والوقوع بصورة متفاوتة تحت تأثير او حكم القوى الاجنبية والحركة التجارية ونظرا إلى أن درجة التأثير تختلف من إقليم إلى آخر.
الأطر الاقتصادية والمالية
قد يظن بعض الناس ان توحيد المملكة كانت له فوائد مباشرة للملك عبدالعزيز لاعتقادهم زيادة الايرادات الحكومية من الحج والضرائب والزكاة، ولكن مما لا شك فيه ان الولاءات الجديدة جلبت معها أعباء ضخمة ناءت بها الميزانية وتظهر ميزانية 1350 - 1351ه أن نفقات الأمن وحدها مثلت 34% من الميزانية اما ارقام الميزانية الكلية فتظهر تواضع النفقات وضيق الحال.
واستمرت الحال هكذا حتى اكتشاف البترول بصورة تجارية في عام 1938م (1357ه) ولكن لم يسهم البترول بصورة ملموسة في تحسين عائدات المملكة حتى عام 1368ه (1949م) حين ارتفعت حصة المملكة الى ما يقارب 12 مليون دولار، وقبل ان تتحقق هذه القفزة الكمية والنوعية في موارد الدولة تأثر الموردان الرئيسان للإيرادات وهما: الحج والجمارك وبصورة غير مباشرة الضرائب والزكاة بالظروف الاقتصادية العالمية (الكساد) والحرب العالمية الثانية بالاضافة إلى الجفاف في داخل المملكة.
اما بالنسبة للحج فقد تناقصت اعداد الحجاج بصورة كبيرة يعكسها الجدول المنشور .
ومن الجدول يمكن ملاحظة ان أعداد الحجاج قد تدنت الى النصف في احسن حالاتها، وبالتالي تأثرت الإيرادات المباشرة التي تمثلت في رسوم الحج والايرادات غير المباشرة من الحركة التجارية والتبادل وإنعاش الاقتصاديات المحلية.
اما موردا الزكاة والضرائب فتكشف الوثائق التاريخية عن جوانب ضعفها، وقد ذكر الاستاذ عبدالعزيز التويجري في بعض الوثائق والمكاتبات بين امراء المناطق المكلفين بجمع الزكاة من جهة وعمال الملك عبدالعزيز من جهة اخرى ان كثيرا من البلدان لم يكن فيها احد تجب عليه الزكاة, وبعضها لم تتعد زكاتها بضعة ريالات، وقد وصلت الحال ببعضهم -فضلا عن عدم وجود انصبة زكاة- ان اعلموا الملك بأنهم قد يضطرون للقدوم عليه ليأكلوا من مضافته، ورغم هذا الشح في الموارد لم يقف الملك عبدالعزيز مكتوف اليدين فقد استقدم الخبراء لدراسة جيولوجيا الارض، واستكشاف مصادر المياه والاراضي الزراعية الصالحة، وكذلك لاستغلال الذهب في منطقة الحجاز والفضة والنحاس والرصاص املا في تطوير مصادر للايرادات، تمتاز بالتنوع والثبات واستنباطها.
وقد شجعت الدولة الزراعة بإعطاء الصكوك الشرعية لكل من ملك ارضا واحياها، واستوردت الآلات الزراعية، ودفعت قروضا ميسرة للمزارعين، ولم يقف الامر عند هذا الحد بل استحدثت الحكومة وسائل لمعالجة شح الامكانات من جهة وكبر حجم النفقات من جهة اخرى.
وقد اجمل بعض الكتاب هذه المعالجات في الآتي:
1- تزايد ثقة التجار في الحكومة ودفع زكاتهم عبرها.
2- الاقتراض من التجار وكبار اصحاب رؤوس الاموال.
3- دعوة المؤسسات التجارية والحكومات الاجنبية للمساعدة في تنمية البلاد.
هذا إضافة الى امتيازات التعدين، التي اصبحت المنافسة عليها شديدة، وبخاصة بعد انتشار اخبار الاكتشافات الاولى للشركة الامريكية.
كما قامت الحكومة الامريكية بتقديم بعض المساعدات العينية والمالية، وساعدت تلك التسهيلات الحكومة على استمرار مشاريع التنمية المختلفة، وربما ساعد ازدياد ثقة السكان والعالم الخارجي في نظام الملك عبدالعزيز في المساعدة على التماسك والتغلب على تلك المصاعب في تلك الفترة حتى جاءت مرحلة البترول.
إصدار العملة السعودية
ذكرنا فيما سبق من هذا البحث ان الاوضاع الاقتصادية والمالية في المملكة تختلف من جزء إلى آخر باختلاف ظروفه المحيطة به، وباختلاف القوى السياسية المسيطرة، وباختلاف العلاقات التجارية بين ذلك القطر وما حوله، داخل الجزيرة العربية وخارجها، ولعل اهم مظاهر هذا الاختلاف هو العملة السائدة في كل منطقة، ففي الحجاز كان التداول بالعملة العثمانية المعروفة بالمجيدي ثم بالريال الهاشمي، وفي نجد تنتشر عدد من العملات منها الريال النمساوي (ريال ماريا تريزا) المعروف عند اهل نجد بالفرنسي والجنيه الانجليزي والبيزة، وفي الاحساء كان التعامل بالريال العثماني وبالروبية الهندية, كما كان التداول في جيزان وعسير بالليرة العثمانية، وريال ماريا تريزا والجنيه الانجليزي والروبية الهندية.
وهذا الخليط من العملات أوجدته ظروف اضطرارية، حيث ان تكوين المملكة العربية السعودية بدأ من الصفر، أي لم يكن هناك كيان قائم ليضم اليه جزءاً او اجزاء من مناطق اخرى، بل ان كل اجزاء المملكة انضمت الى بعضها لتكون المملكة العربية السعودية, هذا الوضع الصعب تعامل معه الملك عبدالعزيز بما يمليه الظرف القائم، وتم ذلك بأسلوبين: احدهما: إضفاء الشرعية على بعض العملات الاجنبية، بوضع اسم بعض مناطق المملكة عليها، حيث وضعت كلمة نجد على الريال النمساوي (ريال ماريا تريزا) المعروف عند اهل نجد بالفرنسي,, ووضعت كلمة نجد كذلك على البارة العثمانية والروبية الهندية والقروش المصرية من فئة عشرة قروش وخمسة قروش، ووضعت كلمة الحجاز على الريال العثماني المعروف بالمجيدي والبارة العثمانية والقروش الفضية العثمانية، والثاني: هو صدور امر ملكي برقم 176 في 13/3/1347ه يقضي بقبول التعامل بالعملات الاجنبية, وكان قد سبق ذلك المرسوم نشر بلاغ في العدد 70 من جريدة أم القرى الصادرة يوم 24/10/1344ه يقضي بقبول التعامل بالريال العثماني المعروف بالمجيدي, ولا شك ان تعدد العملات وغياب عملة موحدة يتم على اساسها تحديد سعر صرف العملات الاجنبية يسبب مشكلات كثيرة للمتعاملين وللجهات الرسمية، ولم يغب عن الملك عبدالعزيز إدراك هذه المشكلات رغم انشغاله بما هو أهم، فقد فكر عام 1336 في سك عملة نحاسية لسلطنة نجد,, ثم نفذ تلك الفكرة عام 1344ه بسك عملة نحاسية من فئة القرش ونصف القرش وربع القرش نقش عليها عبدالعزيز السعود ملك الحجاز وسلطان نجد ولقد أدى طرح هذه العملة في الاسواق الى ايقاف التعامل بالعملة الهاشمية والعملات العثمانية.
وفي عام 1346ه صدر اول نظام للنقد في المملكة العربية السعودية باسم نظام النقد الحجازي النجدي المسمى بالنقد العربي وبناء على هذا النظام تم سك الريال العربي ونصف الريال وربع الريال من الفضة الخالصة، وقد وضعت قيمة صرفه وتقسيماته مماثلة للريال العثماني (المجيدي)، ليسهل على الناس وعلى الادارة إحلاله محل العملة العثمانية، وفي ظل ذلك النظام ايضا تم سك القروش من فئة القرش ونصف القرش وربع القرش من النحاس.
وقد ربط نظام النقد الحجازي النجدي قيمة الريال العربي بالجنيه الانجليزي الذهبي، حيث جاء في نظام النقد الجنيه الانجليزي الذهب، هو الاساس لقياس أسعار العملة الفضية العربية وقد جعل الجنيه الانجليزي الذهب يساوي عشرة ريالات عربية، او مائة وعشرة قروش اميرية، او مائتين وعشرين قرشا دارجا، اي ان الريال العربي يساوي احد عشر قرشا اميريا او اثنين وعشرين قرشا دارجا, ولحماية الريال العربي نصت المادة التاسعة من نظام النقد الحجازي النجدي على قابلية تحويل الريال العربي الى الجنيه الانجليزي الذهبي حسب سعر الصرف المذكور في النظام، وسببُ ربط الريال العربي بالجنيه الانجليزي الذهبي أمران: احدهما: ان الدولة تستلم ايراداتها وتسدد مشترياتها الخارجية بالجنيه الانجليزي الذهبي، والامر الآخر: ان الجنيه الانجليزي الذهبي من اقوى العملات الدولية في ذلك الوقت تبعا لقوة بريطانيا العظمى,, وبإصدار الريال العربي والقرش وفئاتهما اصبح الريال العربي العملة الرسمية للدولة السعودية ابتداء من غرة شهر شعبان عام 1346ه.
وفي ظل ذلك النظام وحسب نص المادة السادسة منه فرضت الدولة رسوما جمركية على دخول الفضة الى المملكة، على حين سمحت بدخول الذهب الى البلاد دون رسوم جمركية ومنعت خروجه منها سواء كان في شكل عملات ام في شكل سبائك، والقصد من ذلك الاجراء هو حماية العملة المحلية وتوفير الغطاء لها.
وفي عام 1355ه ونتيجة لارتفاع اسعار الفضة في الاسواق العالمية اعيد سك الريال العربي وفئاته من الفضة ايضا، ولكن بحجم اصغر من اصدار عام 1346ه كما اعيد سك القرش وقتها بالحجم السابق نفسه، وقد كتب على الاصدار الجديد عبدالعزيز السعود ملك المملكة العربية السعودية بدلا من ملك الحجاز وسلطان نجد التي كان يحملها الاصدار السابق، وحل إصدار عام 1355ه تدريجيا محل اصدار عام 1346ه الذي اختفى من الاسواق عام 1357ه كما جاء في العدد 702 في 28/3/1357ه من جريدة ام القرى.
وحتى تسهل الدولة التعامل بالريال السعودي على المصارف والمؤسسات المالية العالمية في الخارج اتفقت مع فرع البنك الهولندي في البحرين على قبول التعامل بالريال السعودي كما جاء في جريدة أم القرى بعددها رقم 772 في 15/8/1358ه، وفي عام 1370ه تم سك الجنيه السعودي الذهبي الذي اصبح عملة قانونية ووضع في التداول اعتبارا من 3/2/1372ه بموجب المرسوم الملكي رقم 30/4/1/2255 في 26/1/1372ه والجنيه السعودي الذهبي يساوي الجنيه الذهبي الانجليزي وزنا ونقاوة، وحدد سعر صرفه بأربعين ريالا عربياً, وبعد وضعه في التداول اصبح هو وسيلة سداد مشتريات المملكة من الخارج بدلا من الجنيه الانجليزي الذهبي.
وآخر حلقة من حلقات إصدار العملة في عهد الملك عبدالعزيز يرحمه الله هو إصدار العملة الورقية التي عرفت بإيصالات الحجاج والتي صدرت أول ما صدرت بفئة عشرة الريالات في 18/11/1372ه ثم تبعتها فئة خمسة الريالات في 15/9/1373ه وفئة الريال الواحد في 23/11/1375ه وقد بينت وزارة المالية -في تصريح لوزيرها نشر أم القرى في العدد 1435 في 5/2/1372ه - أسباب إصدار سك العملة وطريقة التعامل بها.
وقد جاء في نفس العدد من ام القرى بلاغ من مؤسسة النقد السعودي فصلت فيه طريقة التعامل مع البنوك والمصارف والصيارفة وغيرهم بخصوص إصدار وصرف وتحويل الريالات الى جنيهات ذهبية والى الحفاظ على اسعار الصرف.
إعداد الموازنة العامة
تتعدد تعاريف الموازنة العامة للدولة بتعدد الزوايا التي ينطلق منها التعريف، فقد ينطلق التعريف من زاوية تشريعية وقد ينطلق من زاوية إدارية، وقد ينطلق من زاوية رقابية, وبما ان هذا البحث ينصب على الادارة المالية في عهد الملك عبدالعزيز فلعل الكاتب يستعير التعريف من زاوية ادارية، والذي يمكن بموجبه أن تعرف ميزانية الدولة: بأنها عبارة عن وثيقة إدارية مهمة تضم تقديرات تفصيلية مبوبة لايرادات الدولة ونفقاتها، بصورة توضح نطاق النشاط المالي للدولة وطبيعته خلال سنة مالية مقبلة، بحيث يتعذر في غيابها ضمان انتظام اعمال ادارات الحكومة ومؤسساتها وانشطتها، أو بعبارة اخرى فإن الميزانية هي صيغة تنظيمية تقوم فيها الدولة بتقدير وتحديد حجم إيراداتها ونفقاتها المالية خلال دورة زمنية ثابتة على ضوء مجموعة من الاهداف في إطار الخطط التنموية والاقتصادية.
واذا عدنا الى واقع المناطق التي تكونت منها المملكة العربية السعودية، فإننا نجد بدايات متواضعة لفكرة الميزانية في بعض مناطق المملكة، ففي الحجاز كما يقول الدكتور ابراهيم العتيبي سوابق لوضع الميزانية موروثة من العهد الهاشمي، ولكنها لم تكن بصورة متكاملة فظل هذا الموروث حتى بدايات اعداد الميزانية في التنظيم الذي اتخذ في عهد الملك عبدالعزيز في الحجاز، ومما لا شك فيه ان ارتباط الحجاز بالدولة العثمانية، واشراف الاتراك على دولة الهاشميين في الحجاز، اسهم في عدم تطور الميزانية بصورة مستقلة.
وقد أولى الملك عبدالعزيز اهتماما خاصا بالادارة المالية، وبإحدى ادواتها الميزانية فكون رحمه الله مجلسا اهليا بمكة المكرمة عام 1343ه، ومن مهمات هذا المجلس إعداد الميزانية.
كما صدر في 24 محرم 1345ه قرار بتشكيل مجلس إدارة، لتدقيق الاوراق المالية.
ثم تلا ذلك تشكيل لجنة للانظمة المالية، برئاسة الشيخ محمد أديب، من مهماتها تدقيق استحداث مبدأ الميزانيات المقترح من مديرية المالية ودراسته، وقد انتهت اللجنة بدراسة قدمت في شهر شوال عام 1346ه، جاء فيها اقتراح تشكيل مجلس إدارة في كل منطقة مهمته إقرار ميزانية المنطقة من واقع الايرادات المحلية، وعند تأسيس مجلس الشورى عام 1346ه جعل إعداد الميزانية من مهماته، وعندما صدر نظام وكالة المالية عام 1347ه فصل طريقة اعداد الميزانية بشكل اوضح عندما جاء بتعليمات لجنة الميزانية التابعة لمديرية المالية, وبين ان واجبات لجنة الميزانية هي تقدير الواردات والمصروفات السنوية في رأس كل سنة مالية بنسبة الاعوام السابقة بمعرفة الدوائر ذات الحسابات، اما الدوائر التي لم يكن لها مال سيتحصل فإن الوكالة مخولة باقتطاع ما يغطي احتياج الدوائر التي لا ايرادات لها من الدوائر ذات الايرادات، ويستمر الحال في وضع موازنات منفردة لكل ادارة حكومية حتى عام 1350ه حيث صدر اول ميزانية موحدة للمملكة الحجازية والنجدية وملحقاتها.
يظهر مما سبق ان الملك عبدالعزيز يرحمه الله كان مهتما بهذه الادارة، والميزانية منذ عام 1343ه كما ذكر ذلك الاستاذ فؤاد حمزة في كتابه البلاد العربية السعودية ان الملك عبدالعزيز قد فكر في إعداد ميزانية موحدة للبلاد منذ عام 1348ه وقد تحقق ذلك عام 1350ه، وقد علق على ذلك الدكتور ابراهيم العتيبي بقوله ومن هنا يمكن القول ان الفترة الواقعة ما بين عام 1343ه عام 1350ه تحتل فترة انتقالية في اوضاع الميزانية في الحجاز من ميزانية مجزأة الى ميزانية موحدة ثم يضيف العتيبي ان هذا التحول في صورة متدرجة اتسعت مع مقدرة البلاد الاقتصادية وظهور التنظيمات الادارية والتشكيلات الحكومية، ويدلل على ذلك بأن الموجود في خزينة الدولة من النقود عام 1346ه كان لا يتجاوز الفي ريال مجيدي، إلا انه اصبح عام 1350ه حوالي عشرة ملايين ريال عربي.
ولم يحدث تغيير يذكر على اسلوب اعداد الموازنة او اتساع نطاق شمولها، الا عام 1361ه حيث صدرت ميزانية ذلك العام بالريال العربي بدلا من القرش, كما تضمنت بعض التفاصيل لمصروفات بعض المناطق خارج الحجاز.
واستمر الحال كذلك حتى عام 1365ه حيث صدرت ميزانية ذلك العام في شكل جديد كما صدرت شاملة لجميع مناطق المملكة، وفي عام 1367ه كونت لجنة للميزانية في وزارة المالية برئاسة مستشار وزير المالية وعضوية الخبراء الماليين ورئيس ديوان المحاسبات العامة والواردات العامة ومديرية شؤون الميزانية، وكانت مهمة هذه اللجنة تحضير الميزانية وتبليغها ومراقبة تنفيذها, واستمر الحال على ذلك حتى عام 1373ه حيث اصبحت كل وزارة او مصلحة حكومية تتولى إعداد ميزانيتها وتناقشها مع وزارة المالية.
أثر البترول على اقتصاد
المملكة العربية السعودية
يعد اكتشاف النفط نقطة تحول بارزة في اقتصاد المملكة العربية السعودية، وبالتالي في كل نواحي الحياة الاجتماعية، السياسية والاقتصادية، وقد كان البريطانيون، من خلال الشركة الشرقية العامة التي كان مقرها في العاصمة البريطانية، اسبق الامم في التنقيب عن البترول في المملكة، ولكن لم يحالفهم التوفيق وانهوا تعاقدهم في عام 1931م وحل الامريكان محلهم بسرعة من خلال شركتي تكساس واستاندارد او كاليفورنيا اللتين قامتا بتأسيس شركة كاليفورنيا اريبيان استاندرد )California Arabian Standard( والتي عرفت بشركة أرامكو )Aramco(, وانطلقت أعمال التنقيب فور صدور المرسوم الملكي في 14 ربيع الاول 1352ه، بالموافقة على الاتفاقية الاولى للزيت، وقد نظمت الاتفاقية مدة الامتياز وحدود منطقته والعوائد التي تتحصل عليها الحكومة من الشركة, كما نصت الاتفاقية في موادها على طريقة ممارسة الحكومة للرقابة على انشطة الشركة التشغيلية والمحاسبية.
وقد بدأ العمل الحقيقي في 26 محرم 1357ه وكان اول بئر منتجة في 11/1/1357ه في الظهران ومن ثم توالت الاكتشافات بكميات تجارية في بقيق وغيرها من المناطق.
ومما يذكر ان دخل المملكة من البترول لم يتجاوز 300 مليون دولار، الا ابتداء من عام 1959م (1379ه) عندما بدأت شركة الزيت العربية اليابانية استثمار آبارها.
وقد تأثر انتاج البترول وكذلك نصيب المملكة من عائداته بنشوب الحرب العالمية الثانية، فقد خلقت الحرب صعوبات عديدة مثل استيراد الآلات للتعمير وقد اغلقت مصفاة رأس تنورة التي جرى بناؤها عام 1940م (1359ه)، ولكن نهاية الحرب اعطت دفعة قوية لصناعة الزيت في المملكة مما ادى الى توسعها، (يلاحظ القفزة في الانتاج والعوائد بعد عام 1944م (1363ه) وعادت المصفاة للعمل بصورة اكبر.
وقد كانت إيرادات المملكة، قبل انتاج الزيت بكميات تجارية، تتركز في الضرائب والجمارك والحج وتغيرت تركيبة الايرادات بعد اكتشاف النفط الذي شكل 95% منها.
واذا كان التأثير الاقتصادي للنفط في بداية الامر محدودا، فإن التأثير الاجتماعي لم يتعد حدود المنطقة الشرقية كثيرا، الا ان ذلك سرعان ما تغير حيث بدأت اعداد كبيرة من السعوديين في الانخراط في أعمال شركات النفط بصورة مباشرة او غير مباشرة، وقد حدا ذلك بالخبير سانقر )Sanger( للتعبير عن ذلك بقوله من المقدر ان 70,000 عامل مع اسرهم واقاربهم يتكسبون بطريقة مباشرة او غير مباشرة من ارامكو، والرجال الذين كانوا قبل سنين قليلة يتكسبون حياتهم حول المياه الشحيحة في محافظة الاحساء اصبحوا الآن يحصلون على رواتب منتظمة.
ويذكر السبيعي ان الحد الأدنى للأجر اليومي كان يتراوح بين ثلاثة ارباع ريال حتى وصل خمسة ريالات بنهاية عام 1352ه، وقد اشار السبيعي ايضا الى ان التغير في الأجور كان كميا تمثل في زيادة الاجور ونوعيا حيث اصبحت الاجور تدفع نقدا، في حين كانت تدفع عينا اي تمرا او ارزا قبل ذلك, وبالرغم من الاهمية الاقتصادية فإن كثيرا من المحللين يرون ان اهم انجازات الطفرة البترولية في ذلك الوقت هي عملية توطين البدو، وما صاحبها من نمو المناطق السكنية التي تطورت الى مدن حديثة فيما بعد، ومن هذه المدن ما كان قائما ثم تطور مثل الدمام او التي نشأت حينها في مواقع الآبار كمدينة الظهران وبقيق والثقبة ورحيمة او تلك التي كان يمر عبرها خط الانابيب عبر البلاد العربية (التابلاين) كالقيصومة والوديعة والشعبة ورفحاء وعرعر وطريف، وقد اثر قيام هذه المدن بصورة كبيرة على الاقتصاد المحلي، وخاصة بتنفيذ شركة التابلاين والتزامها للحكومة بتوفير المياه والمدارس والمستشفيات والسكن والطرق للعاملين والقاطنين والعابرين في المنطقة.
اما التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي احدثها النفط اجمالا فمن الصعب حصرها في هذا الحيز، الا ان اولى البشائر اثرا على اقتصاد المملكة جاءت من ازدياد حصة المملكة الحقيقية من عائدات النفط (ريع وضرائب) وقد نتج عن الزيادة في الكميات المنتجة من الزيت خاصة بعد نهاية الحرب العالمية ازداد الاجور في المملكة ونشطت حركة القطاع الخاص وازداد الطلب على المنتجات المحلية والمستوردة.
ومن مؤشرات هذا التحول ان المملكة صارت تستورد الماشية واللحوم والمنتجات الحيوانية بعد ان كانت تصدرها ابتداء من عام 1371ه (1952م).
وقد ارجع هذا التحول الكبير في النمو الاقتصادي والانماط الاستهلاكية الى هجرة البدو الى المدن كما ذكرنا سابقا بالإضافة الى هجرة السكان لمهنة تربية الحيوانات وايضا لارتفاع مستويات الدخل، مما جلب معه انماطا جديدة للاستهلاك، ويشير السبيعي الى ان ارتفاع مستوى المعيشة ادى الى التخلي عن التمر كوجبة رئيسة وكذلك اللبن المحلوب داخل المنازل, كما ادى الاحتكاك بالاجانب الوافدين للعمل لاستجلاب انواع جديدة من المواد الغذائية وخاصة الخضر والفواكه واللحوم المعلبة.
وكذلك اثر اكتشاف النفط على الزراعة والاقتصاد الزراعي في المملكة عموما، حيث ادى الى التحول الى استخدام الآلات الزراعية مما قلل من الاعتماد على العمالة اليدوية, إلا أنه من هذه الناحية اختلف من منطقة لأخرى، حيث قل هذا الاثر في مناطق النخيل، وظهر أكثر في المناطق الزراعية الاخرى.
صدور الأنظمة المالية
بعد استتباب الأمر للملك عبدالعزيز عليه رحمة الله التفت الى الشؤون المعينة على استمرارية الاستقرار، وتثبيت أركان الدولة الوليدة ومن الطبيعي في مثل هذه الأحوال ان يكون البدء بالحالة الادارية والاقتصادية، ومع ان بدايات تلك النشاطات والجهود قد صاحبتها بعض المعوقات مثل الكساد الاقتصادي الكبير، الذي ضرب ارجاء المعمورة، والحرب العالمية الثانية التي جاءت على اعقابه، فإن تلك الجهود اسهمت بتوفيق الله في تحقيق الاهداف المرجوة منها.
ومن استقراء التاريخ يمكن ملاحظة ان صدور معظم الانظمة الادارية والمالية اعقب مباشرة استكمال الوضع الاداري للمملكة وتغيير اسمها، وتوحيدها تحت اسم المملكة العربية السعودية بدلا عن اسم المملكة الحجازية النجدية وملحقاتها في جمادى الاولى سنة 1351ه.
وقد صدرت عدة انظمة تعنى بالشؤون المالية كان أهمها:
1- نظام التعليمات الاساسية للمملكة الحجازية الذي صدر في 21/2/1345ه.
2- نظام النقد الحجازي النجدي الذي صدر في 10/7/1346ه.
3- نظام وكالة المالية العامة الذي صدر في 18/3/1347ه.
4- نظام الموازنة للعام المالي 1/8/1350 - 30/7/1351ه الذي نشر بأم القرى في 7/9/1350ه.
5- نظام وزارة المالية الذي صدر في 20/4/1351ه.
6- نظام الخزينة الخاصة الذي صدر في 29/6/1351ه.
7- نظام جباية أموال الدولة الذي صدر في 12/4/1359ه.
8- نظام توزرع الصدقات الذي صدر في 22/11/1359ه.
9- نظام التفتيش المالي الذي صدر في 16/3/1364ه.
10- أنظمة الزكاة الشرعية وضريبة الدخل الذي صدر في 21/1/1370ه.
11- نظام المجلس الاقتصادي الأعلى الذي صدر في 20/4/1371ه.
وصدور هذه الانظمة كان نتاجا للتطور السياسي والاقتصادي، دعت له الحاجة لمواكبة التوسع الحاصل في المملكة في شتى مناحي الحياة,, وقد اثبتنا التعليمات الاساسية للمملكة الحجازية هنا، لأنها احتوت على اولى التعليمات التي أرست أسس تسيير امور الدولة وقد قامت التعليمات بتنظيم كل ناحية من النواحي التي عالجتها، والتي شملت الامور الداخلية والامور الخارجية والامور المالية وكذلك امور المعارف العمومية، الا ان هذه المعالجات اتسمت بالإجمال الذي يفترض ويتوقع في اول نظام يحاول تطويره، ولذلك سرعان ما توالى اصدار الانظمة الاخرى لتفصيل ما اجمل مع مراعاة الإضافة والتحديث بما يستجد من احداث، وجاء إصدار نظام النقد الحجازي النجدي الذي صدر في 10/7/1346ه كخطوة في ذلك الاتجاه من أجل تنظيم اصدار النقد وتداوله طالما أنه عصب الحياة الاقتصادية ومدار شؤون المال واتسم النظام بالشمول والتفصيل ولكن جدة الامر بالنسبة للسكان جعلت هناك حاجة لاصدار بلاغات وبيانات توضيحية وتفسيرية، بل وتعليمية للناس في بعض الاحيان, واذا اعتبرنا ان نظام النقد الحجازي قد الغى التضارب، وحدد التعامل النقدي في حدود المملكة، فإن نظام وكالة المالية العامة الذي صدر في 18/3/1347ه قد وضع اسس توحيد المعاملات المالية في عموم انحاء حدود السلطة السياسية, وربما في اصدار نظام الوكالة إشارة لطيفة إلى توطين الإدارة المالية قرب رئاسة الحكومة بالعاصمة المقدسة وقد حاول النظام في ملحق خاص معالجة بعض اوجه الميزانية في دوائر الدولة، ولكن يبدو ان الامر احتاج لمعالجة اوضح، تمثلت في نظام الموازنة للعام المالي الذي نشر بأم القرى في 1/8/1350ه.
اما نظام وزارة المالية الذي صدر في 20/4/1351ه فقد جاء استجابة للحاجة لاعادة تنظيم الدوائر الحكومية، بما يناسب المستجدات الادارية والسياسية، فقد تطورت دائرة رعاية الشؤون المالية من مديرية الامور المالية في عام 1347ه وكالة المالية في عام 1351ه ثم وزارة المالية في العام نفسه, فقيام مديرية الامور المالية استتبع نهاية الحرب في الحجاز، واستقرار اوضاعه وحاجة الحكومة الى كيان يدير شؤون المال بجوارها، ورغم ذلك فقد كانت هناك رئاسة الاموال بجدة، تقوم بتصريف بعض المهام المالية، وكما ذكرنا سابقا فإن الملك عبدالعزيز - رحمه الله - لما اراد توحيد كل الأعمال المالية تحت إدارة واحدة، رفعت مديرية الامور المالية لتصبح وكالة في عام 1347ه، ولم يقف الامر عند ذلك إذ سرعان ما احتاج التوسع في الجهاز الاداري للوكالة والذي تزامن مع بداية الازمة الاقتصادية العالمية في عام 1350ه الى تحويل الوكالة الى وزارة المالية، ومن ثم صدر نظام وزارة المالية من 103 مواد لتنظيم انشطتها المختلفة وتقنينها، اما نظام الخزينة الخاصة والذي صدر في 29/6/1351ه بعد قرابة شهرين من صدور سابقة فقد جاء استكمالا له، فبينما اهتم نظام وزارة المالية بالمالية العامة فقد ركز نظام الخزينة الخاصة على الاعمال المالية الخاصة بالملك عبدالعزيز يرحمه الله, وهذه الخطوة في حد ذاتها تعد استكمالا للتنظيم والضبط الاداري، حتى يتسنى تنظيم اوجه الصرف المالي، لجلالة الملك عبدالعزيز وتحديدها بمنأى عن متطلبات الصرف والضبط المالي العام.
ومع استمرار التطور الاداري، وتوسع دولاب الحكم، وتعدد أوجه الصرف المالي، كان لزاما على الدولة الالتفات لجانب الايرادات الحكومية، والتي تعتمد عليها في تسيير شؤونها اليومية وكذلك في تنفيذ الخطط التنموية الطموحة التي كان الملك عبدالعزيز عازما على تنفيذها فصدر نظام جباية اموال الدولة في 12/4/1359ه لتقنين نظم جباية موارد الدولة من ضرائب ورسوم وطرق اتصال بأصحاب الذمم وطرق التحصيل المختلفة على حسب نوع الذمم, وتبع ذلك النظام نظام توزيع الصدقات الذي رفعه مجلس الشورى في 22/11/1359ه وكان ذلك النظام استكمالا وتكاملا لنظام توزيع الصدقات (الذي صدر في عام 1347ه)، مع تعاليم المؤسسات الخيرية وقد عالج النظام في مجمله توزيع الصدقات والإعانات والمخصصات الى مستحقيها.
ولم يمض وقت طويل حتى صدر قانون التفتيش المالي في 16/3/1364ه لاستكمال حلقة الرقابة على اموال الدولة، وذلك إمعانا في الحفاظ على الاموال المخصصة لمختلف الاغراض، وجاءت اهمية النظام في ذلك الوقت مع اشتداد الازمة المالية في العالم إبان الحرب العالمية الثانية، وشح الموارد المالية من البترول والحج وخلافه، فكان صدور القانون امعانا في ترشيد الاموال وحفظ الموارد واستجابة للظروف المحيطة، ومع تكامل الجهود ونهاية الحرب العالمية الثانية وزيادة نشاط الشركات الاجنبية في التنقيب على النفط وتطويره، وكذلك البدء في كثير من مشاريع البنى التحتية في المملكة اصبح الدخل المكتسب بواسطة هذه الشركات وافرادها العاملين في المملكة، يمثل نسبة مهمة من اجمالي الدخل العام, وتبعا لذلك احتاج الامر الى اصدار انظمة الزكاة الشرعية وضريبة الدخل في 21/1/1370ه لتحديد أوعية ضريبة الدخل والخاضعين للضريبة وطرق تحصيل الزكاة الشرعية وتوزيعها وجاء نظام المجلس الاقتصادي العالي في 24/8/1372ه كهيئة استشارية، تتولى دراسة كثير من الشؤون الاقتصادية، او التوصية لتبديل النظم المالية المصدرة، وتقديم النصح حولها للحكومة، وكأنما جاء هذا النظام ليؤكد اكتمال النظم المالية الاساسية في عهد الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه، ومن ثم الحاجة لجهة خبيرة وذات دراية لكي تتولى مراجعة ما صدر وتجويده او تعديله حسب المستجدات الاقتصادية والاجتماعية المحتملة.
دلالات صدور الأنظمة المالية
لصدور هذه الانظمة المالية كثير من الدلالات يمكن إجمالها فيما يلي:
1- الانتقال من العفوية في التنظيم الى مرتكزات نظامية ومرجعيات قانونية، حيث يمثل صدور الانظمة المالية إنشاء مرجعيات تنظم اوجه الشؤون المالية بدلا عن الادارة العشوائية.
2- إنشاء مقاييس ومعايير لتسهيل تصريف الامور المالية من جهة وسهولة قياس الاداء والمحاسبة من جهة اخرى.
3- سهولة تحديد المسؤولية وسرعة البت في الامور المالية مثل التحصيل والتوزيع والاستئنافات.
4- تسهيل مراجعة الانظمة والرغبة في التطوير، وذلك بوضع الانظمة تحت الاختبار وقياس فعالياتها ومن ثم مراجعتها اذا لزم الامر.
5- تعكس كثير من هذه الانظمة طموحا ونظرة متفائلة للمستقبل.
وفي القسم التالي سوف نقوم بمناقشة هذه الانظمة المذكورة بشيء من التفصيل، حتى نستعرض اهم موادها والمواضيع التي عالجتها,, وبالطبع فإن مناقشة ادق تفاصيل هذه الانظمة يحتاج إلى أكثر مما تسمح به هذه الدراسة، ولكن إغفالها يعني اهمال جانب مهم من جوانب الادارة المالية في عهد الملك عبدالعزيز يرحمه الله.
تقويم الإدارة المالية في عهد الملك عبدالعزيز
بعدما قمنا باستعراض التطورات المالية خلال حياة الملك عبدالعزيز يرحمه الله نحاول في هذا الجزء من الدراسة، وضع اطار عام لمحاولة تقويم هذه التطورات التي تمت في تلك الفترة، ولأجل ذلك ومع صعوبة تقويم سياسة امتدت عبر حقب زمنية تنوعت اطرها واجواؤها، فإن التقويم سيكون في ظل المعايير التالية:
* الالتزام بالقيم الدينية واعراف المجتمع، حفظ الحقوق الخاصة، التطور والتنوع، القدرة على امتصاص الازمات، تفادي الديون الخارجية.
القيم
من الصعوبة بمكان قياس التزام نظم الادارة المالية بالقيم والمثل العليا، وذلك لأن نجاح الادارة المالية يقاس بمدى فعاليتها وكفاءتها او مخرجاتها من زيادة المتحصلات وتقليل النفقات وضبط الاداء ومراقبته، ولكن في حالة المملكة فإن الالتزام بالقيم الدينية واعراف المجتمع وتقاليده مثلتا ركيزة اساسية في بناء النظم المالية وتطور انظمتها ولوائحها، وقد اثبت هذه السمة احد الخبراء الامريكان، بقوله: ان الملك عبدالعزيز كان يحاول تثبيت أركان مملكته، ومساعدة شعبه في تحسين حياتهم الاجتماعية والاقتصادية بتطبيق احسن النظم الاقتصادية والزراعية الغربية دون المساس بقيم المجتمع الدينية والاجتماعية.
وبدأ التزام الملك عبدالعزيز وتأكيده على ذلك في توجيهاته لفريق الخبراء الغربيين الذين عهد اليهم بتطوير نظام بنك مركزي للمملكة وتقويمه اذ طلب منهم تعديل تقاريرهم وتوصياتهم لتطابق الشريعة الاسلامية، وقد جاء ذلك واضحا في تقرير منع أي عمل يتعارض مع مبادئ الشريعة الاسلامية.
ولم يقف الامر عند حدود التعاملات داخل المملكة، ولكن ظل تأكيد الملك عبدالعزيز على الالتزام بالشريعة الاسلامية حتى في معاملاته المالية الخارجية ولقد درجت حكومة الولايات المتحدة على تقديم قروض لدول الشرق الاوسط مثل مصر وتركيا واثيوبيا وايران والعراق بعد الحرب العالمية لمساعدتها في تجاوز ازمات الحرب، وكانت الظاهرة المميزة للقروض الممنوحة للسعودية خاصة هو إلغاء سعر الفائدة تجاوبا مع طلب الملك عبدالعزيز.
وناحية اخرى تتجلى فيها مراعاة القيم الدينية والاجتماعية وقيم العدالة إذ امر الملك عبدالعزيز في اول عهده بتشكيل لجنة لدراسة للاجراءات المالية ومقارنتها ومراجعة الرسوم المفروضة على المواطنين.
وقد صدر مرسوم ملكي بتاريخ 18/2/1344ه ليبدأ العمل به في عام 1345ه نص على تخفيض الرسوم الجمركية لمصلحة المملكة وشفقة على الرعية.
حماية الحقوق الخاصة
مما يؤكد على اهمية الحقوق الخاصة في المملكة العربية السعودية ان المادة السابعة عشرة من النظام الاساس للحكم نصت على ان الملكية ورأس المال والعمل مقومات اساسية في الكيان الاقتصادي والاجتماعي للمملكة العربية السعودية، وهي حقوق خاصة تؤدي وظيفة اجتماعية وفق الشريعة الاسلامية ولقد الزمت الشريعة الإسلامية الحكام احترام الملكية الخاصة وأموال الناس، هذا بالطبع يستتبع عدم جواز المصادرة وتأميم الاملاك والتعدي على الحقوق الخاصة ومن هذا المنطلق كان الملك عبدالعزيز يعمل وفق ضوابط الشرع في كل ما يعترضه من امور الحكم، وفي خطاب له لأهل مكة قبل دخولها كتب لهم مؤكدا على تمسكه بهذه المبادئ قائلا: عليكم يا أهل مكة واتباعها من الأشراف أهل البلد عموما والمجاورين والملتجئين من جميع الاقطار عهد الله وميثاقه على اموالكم ودمائكم.
التنوع
المعيار الثالث الذي اتخذناه لتقويم الادارة المالية (سياسة وهياكل على السواء) هو معيار التطور والتنوع ونعني بالتطور هنا تنويع مصادر الايرادات وتطويرها وتفعيل المصروفات والاستثمار بشكل عام وقياس هذه الناحية مهم من ناحيتين: الاولى: انه يشير الى وجود او عدم وجود هياكل ادارية مالية، تدير هذه الاوجه المالية المتعددة بكفاءة ام لا, والثانية: انه يدلل بطريقة غير مباشرة على وجود سياسات مالية مواكبة للتقدم السياسي والاجتماعي.
فمن ناحية الايرادات مثلا نجد ان سياسة الملك عبدالعزيز قد قامت على تنويع مصادر دخل الدولة، مع العلم ان هذه المصادر اختلفت باختلاف مراحل تكوين المملكة، وقد كانت الدولة في ايامها الاولى تعتمد على الزكاة والعشور وغنائم الحرب، ولكن في مرحلة لاحقة ومع انضمام الحجاز الى المملكة اصبح الحج يمثل مصدرا اضافيا للدخل، ثم تحسن مستوى الايرادات عندما اصبحت الجمارك على الواردات إضافة جديدة لهذه المصادر, وفي مرحلة لاحقة صدر نظام ضريبة الدخل، ثم دخول البترول، واصبح العائد منه يمثل مصدرا رئيسا للدخل تتزايد أهميته النسبية مع مرور الايام.
ومن الملاحظ هنا ان جميع المصادر كانت تعاني من عدم الثبات بدرجة كبيرة, فمثلا تأثرت الزكاة كثيرا وخاصة في المراحل الاولى من تكوين الدولة من فقر المواطنين وشح الامطار في المملكة وكثير من المكاتبات بين الملك عبدالعزيز وعماله على المناطق تظهر بوضوح عدم ثبات هذا المصدر.
اما الحج فقد تأثرت اعداد الحجاج في الفترة بين 1345 - 1374ه كثيرا، وبلغ عدد الحجاج في عام 1345 قرابة 190662 حاجا في حين كان 9024 حاجا فقط في عام 1359ه وحتى العائدات من النفط تأثرت هي الاخرى بظروف الحرب العالمية الثانية، وتوقف اعمال تطوير حقول النفط، وقلت حصة الحكومة، والضرائب المباشرة وغير المباشرة من شركات التنقيب، وفي المقابل نجد ان اوجه الصرف هي الاخرى قد تطورت وتعددت اوجهها في خلال فترة حكم الملك عبدالعزيز,, فبالرغم من ان اوجه الصرف الحكومي كانت قليلة في بدايات الدولة تطورت لتشمل الصرف على المشاريع المباشرة، وعلى مشاريع البنى الاساسية من طرق وكباري وشركات نقل وخلافه، ولما كانت إيرادات الدولة وحدها لا تكفي للصرف على ذلك لجأ الملك عبدالعزيز للاقتراض من تجار المناطق والتمويل الدولي، ومن المشاريع التي انشئت في ذلك الوقت شركة السيارات للنقل ورصف طرق مكة جدة بتمويل دولي.
القدرة على مواجهة الأزمات
تعتبر الازمات فرصة للحكم على الانظمة حيث يرى المراقب كيف يمكن للنظام العمل في ظروف استثنائية، وخلال عهد الملك عبدالعزيز طرأ على العالم ظرفان استثنائيان هما الركون الاقتصادي العظيم في عام 1350ه (1929م) والحرب العالمية الثانية، ومع ان الركود الاقتصادي قد جاء بعد مدة ليست بالبعيدة عن بداية تأسيس المملكة، فقد اثبتت هذه الازمة قدرة الدولة على التكيف هيكليا وسياسيا مع هذه المستجدات والتي تطلب تحركا سريعا.
فمن الناحية الهيكلية نجد ان الدولة قد استجابت بمرونة عالية، حيث تزامن تحويل وكالة المالية لوزارة في عام 1350ه مع بداية الازمة الاقتصادية العالمية وصاحب ذلك صدور تعليمات مالية لتنظيم اوجه الصرف والميزانية بتطبيق نظام الجدولة لميزانية الدولة وتخفيض الاعتمادات بما يعادل 50% من النفقات العامة، ومنعت تحويل بنود الاعتمادات المالية.
تفادي الديون الخارجية
تظهر ميزانية 1350 - 1351ه ان 16% من الميزانية قد خصصت لسداد اقساط الديون، وكانت سياسة الدولة في عهد الملك عبدالعزيز هي تفادي الديون، وخاصة الخارجية منها، وفي رأينا ان هذا الموقف املته عدة عوامل:
اولا: كان الملك عبدالعزيز لا يريد رهن ارادته لقوى خارجية، تضغط بما لها عليه من ديون.
ثانيا: ان هذه الديون ربما جرت الدولة للتعامل بأسعار الفائدة، وهو ما كان الملك عبدالعزيز يتحاشاه ويحرص على تجنبه.
ثالثا: ان الملك عبدالعزيز كان يرى مقدرة تنمية موارد البلاد الداخلية التي في ايدي الناس واستخدامها بالاضافة الى تقليل النفقات.
ولكن وبالرغم من ذلك فقد اضطرت الظروف المملكة بفعل المصاعب الاقتصادية الكبيرة التي نجمت عن اثار الحرب العالمية الثانية الى طلب المعونة الخارجية خاصة من الولايات المتحدة.
وقد تلقت قروضا من بنك الاستيراد والتصدير الامريكي ابتداء من عام 1943م (1362ه) فصاعدا ولكن في عام 1948م (1368ه) رفضت عرضا امريكيا لتقديم قرض احتجاجا على السياسة الامريكية تجاه فلسطين.
وبالرغم من ان الظروف قد اضطرت المملكة الى الاستدانة الا ان الديون الحكومية تميزت بشيئين:
(أ) صغر حجمها مقارنة بدخل المملكة المتصاعد من عوائد البترول.
(ب) نوعية القروض كانت قروضا انتاجية (وسائل انتاج) تمثلت في قروض لشراء معدات وآلات زراعية وشاحنات ومواد صحية ولوازم مستشفيات وأدوات طبية.
(ج) قروض تنموية للبنى التحتية من طرق وسكك حديدية وموارد مياه.
ومما تجدر الاشارة اليه انه مما يؤكد جدية الحكومة في ذلك الوقت من الاستفادة القصوى من الديون هو مقابلة كل مرحلة بما يلزمها من القروض, فكانت القروض المستخدمة في وسائل الانتاج من اجل تطوير الاقتصاديات المحلية في مختلف المناطق (1363 - 1366ه) اما القروض التنموية، ان جاز القول فقد استخدمت في المشاريع الكبيرة التي قصد منها ربط اقتصاديات مختلف مناطق المملكة ببعضها وكان ذلك في عامي (1369 - 1370ه), وغني عن القول: ان القروض التنموية - والتي هي كبيرة في مبالغها - جاءت مصاحبة للزيادة في دخل الحكومة من البترول وما ذاك الا لتوافق سياسة المملكة في عدم الاعتماد على القروض لمدد طويلة وتسديدها فورا للأسباب آنفة الذكر، ولم تبلغ نسبة الديون اكثر من 3,2% في أواخر عهد الملك عبدالعزيز يرحمه الله.
ووفقا لهذه المعايير التي اخترناها اساسا لتقويم الادارة المالية في عهد الملك عبدالعزيز يرحمه الله فيمكننا القول: ان الادارة المالية في عهده يرحمه الله تميزت بتمسكها بقيم الدين واعراف المجتمع، ولو على حساب الفوائد الاقتصادية، وقد راعت حقوق الافراد الخاصة، بصورة يندر وجودها واسست لذلك طرقا وآليات.
كما انها تميزت النظم المالية بقدرة عالية على التطور والتكيف مع المتغيرات المتواترة والسريعة في ذلك الوقت, وقد برهنت فترة الكساد الاقتصادي الكبير والحرب العالمية الثانية على مقدرة هياكل الادارة المالية ونظمها في امتصاص اثار تلك الازمات الكبيرة، وفوق كل ذلك انتهجت السياسات المالية مبدأ الاعتماد على الذات، وتجنب الديون، وخاصة الخارجية منها، ما امكن ذلك، مما اعطى المملكة حرية التعامل والاختيار، والذي اصبح سمة مميزة في سياساتها المالية.
لكي يكون تقويماً موضوعياً
وبعد: فقد هدفت الدراسة الى استعراض هياكل الادارة المالية وسياساتها وتحليلها في عهد الملك عبدالعزيز يرحمه الله واستلهمت الدراسة بعرض موجز لمعالم الادارة المالية، والمحيط الاقتصادي في مناطق المملكة المختلفة قبل توحيدها، وخلصت الدراسة الى ان الادارة المالية في هذه المقاطعات قد تأثرت بالموقع الجغرافي لكل منطقة، واقتصادها المحلي، ودرجة احتكاكها، او وقوعها تحت تأثير القوى الاجنبية، ولقد استعرضنا كذلك الاطر الاقتصادية، والسياسات المالية التي اعقبت توحيد المملكة من اصدار عملة موحدة، واستخدام الموازنات العامة في التخطيط والرقابة, ثم قامت الدراسة بتحليل اثر الاستغلال التجاري للبترول على هياكل المملكة المالية وسياساتها, وقد تعرضت الدراسة بشيء من التفصيل للنظم المالية التي صدرت في عهد الملك عبدالعزيز، وما تبعها من تكوين للادارات المالية المختلفة، مع ابراز تسلسلها المنطقي والزمني مع الظروف الاقتصادية المحلية والخارجية السائدة في ذلك الوقت, وقد افردت الدراسة حيزا لوضع هياكل ونظم الادارة المالية في آخر عهد الملك عبدالعزيز - يرحمه الله - نسبة لما تمثله من اهمية كإرث قيم لأمته في هذا المجال, واخيرا اختارت الدراسة مجموعة من المعايير لتقويم الادارة في عهده يرحمه الله حتى يكون التقويم موضوعيا ومنطقيا.
|