من السهل على أي قارىء ان يلاحظ ان تميز الكاتب الروسي تشيكوف يأتي من حكاياته العظيمة الحدث؛ وهو حدث - رغم واقعيته - يحقق لشدته دراما تؤدي الى طقس مسرحي كامل وتحقيق الشخصية المتنوعة على اعتبار ان الشخصية فكرة وهي فكرة يمكن تقليبها لوجوه كثيرة.
وعلى اعتبار ان تشيكوف واقعي الطرح فان عمق اعماله يظل من نماذج الادب الروسي التي يمكن مقارنتها باعمال الكتاب الروس الكبار والكتاب العالميين؛,, لكن الكاتب الروسي الشهير مكسيم جوركي الواقعي الاشتراكي النزعة والذي لم يحقق الكثير في الطقس المسرحي برغم تفوقه في عالم الشخصية الذي قد يعزى الى تجربته الثرية في معرفة البشر,, أقول: مكسيم جوركي من جانب آخر يتميز عن تشيكوف بأن شخصياته ليست سلبية او انكفائية سوداوية المزاج رغم عللها الاجتماعية المركبة ومن واقع تاريخ الكاتب الكبير مكسيم جوركي وعمق التجربة الانسانية عنده فانه بقي كاتبا مباشرا للحكاية اكثر مما هو في فن الكتابة المسرحية رغم ذيوع اعماله بل واتكاء الاعمال العربية عليها في اوائل الخمسينات خصوصا في السينما واحيانا المسرح,, لكن تميزه ايضا يأتي من قوة الشخصية وتفردها ومسرحياته تؤكد النضج الكتابي من ناحية تمكنه العظيم في السرد الروائي المتقن رغم تعثره في سرد الفعل وسياق الحدث في السياق اللفظي.
كانت روسيا قبل الثورة البلشفية تمر بمرحلة انحلال وفساد مما جعله يعتنق الثورة ويؤمن بها متوخيا ان دعوتها للمساواة تحمل الحل لمصائب روسيا,, وهنا فات على جوركي - مثل كثيرين - بدهية انه لا حرية مع المساواة ولا مساواة مع الحرية,, وان المساواة ليست بالضرورة عدلا ينهي شرور العالم وأحقاده.
ولابد الآن ان اذكر ان براعته في كتابة الشخصية من خلال الحوار وهي ميزة تصعب على كثيرين,, ولكي ادلل على هذا سأنقل حوارا من مسرحية (الرجل العجوز) وقبل نقل الحوار فنحن امام تاجر ناجح يعيش حياة هانئة لا يكدرها شيء ولكن في خفايا الامور نجد انه قد اتهم بالقتل في أيامه الأولى وحكم عليه بالسجن وهرب قبل اكمال العقوبة,, ورغم احسانه ببناء المدارس باعمال الخير الا ان الجريمة طاردته عندما جاء زميل له بالسجن حاقد قاسي القلب لكي يبتزه ويهدده بايامه الماضية - التاجر يؤكد انه لم يرتكب الجريمة - والمسرحية في بنيتها خلل واضح فنحن نفاجأ بالعجوز بعد اكثر من قراءة منتصف المسرحية ويغطي هذا العجب جزئيا التعرف السريع عليه من خلال الحوار التالي:
وبعيدا عن الحرية والمساواة والعدل والحق لنقتطع الحوار ونركز على فكرة الشخصية وكيف تبدو من خلال الحوار فقط على اكمل تجلياتها مما يدعم اساسا هاما بان الشخصية وحدها قد خلقت طقسية الحدث المسرحي!
الحوار التالي بين (صوفيا) صديقة التاجر والحريصة على انقاذه من الرجل العجوز المبتز حيث اخلت صوفيا الغرفة من الجميع لتحاول اقناع العجوز باسلوبها المميز وجره للتعاطف مع قضية التاجر والحوار التالي من ترجمة (عبدالحليم البشلاوي).
صوفيا: انت ناقم عليه لانه كون نفسه من جديد وهو ما لم تستطعه انت,,؟
العجوز (في ضحكة قصيرة) اذاً فقد سمعت كل ما دار بيننا,, أليس كذلك؟.
صوفيا: لقد عذبته بما فيه الكفاية,.
العجوز: (ساخرا) بما فيه الكفاية؟
,,فهمت ,, الامر في غاية البساطة,.
صوفيا: عد بذاكرتك الآن الى كل ما عانيته.
وتحملته,, واسأل نفسك هل حان الوقت لينال شيئا من الراحة لتعيش بسلام وهدوء؟
العجوز: هذا اذاً ما ترمين اليه؟,, لا تظني انني سأنخذع بهذا يا سيدتي.
سوفيا: انني ادرك مدى مقتك ومدى رغبتك في الانتقام.
العجوز: لقد كنت أظن انك ستقولين شيئا غير هذا,, شيئا له خطره يدل على الذكاء والبراعة,, ان لك نفسا طيبة ايتها السيدة ولكن ليس لك عقل كبير.
صوفيا,, انك تخطىء باختيار الشخص الذي تنتقم منه,, فليس هو الذي جعلك تتعذب.
العجوز: واذا كنت أظن ان كل شخص مذنب,, سؤال ,,؟ ماذا اذاً؟
صوفيا: ليس هذا صحيحا,, ليس عدلا ,.
العجوز: وانا اقول انه عدل.
صوفيا: لقد عوقبت بغير حق ,, أليس كذلك؟
العجوز: (بعد فترة صمت) اذاً
صوفيا: اذاً لماذا تريد - انت الذي ذقت مرارة العذاب ظلما - ان تجعل الآخرين يتعذبون؟
العجوز: مم ,,, صديقك جوزيف هذا يريد ان يدخل (السعادة) بالرغم من ذنوبه,, أليس كذلك؟ ,, لن تكون (السعادة) من نصيبه انها من نصيبي,, من نصيب التعساء امثالي,, هذا هو العدل,, اما عن جوزيف فاذا قدر لي ان اتعذب مرة فلابد ان يعذب هو مرتين.
صوفيا: ولكن لماذا ,, ؟ يالك من رجل شرير,.
نحن هنا امام شخصية غريبة لا نجد انفسنا في حب او كره لها لكننا قد نتفق انها افراز فساد اجتماعي وهي نظرة مكسيم جوركي للحكاية.
|