"بحث في تقنيات السرد"هو العنوان التفسيري لكتاب "في نظرية الرواية"لعبدالملك مرتاض، وتقنيات السرد كما نعرف هي الاشكاليات الفنية والجمالية المتصورة التي تنشأ عليها الكتابة السردية عموما، والرواية سيدة السرد تحديدا، بما تمتلكه الرواية من عجائبية وسحرية، جعلت عبدالملك مرتاض يبدا كتابة في السطور الاولى من المقدمة بقوله: "الرواية، هذه العجائبية, هذا العالم السحري الجميل، بلغتها وشخصياتها، وأزمانها وأحيازها، وأحداثها، وما يعتور كل ذلك من خصيب الخيال، وبديع الجمال، ما شأنها؟ وما تقنياتها؟ وما مشكلاتها؟ وكيف نكتبها إذا كتبناها؟ وكيف نبني عناصرها إذا بنيناها؟ وكيف نقرؤها إذا قرأناها؟ (ص7)"حيث يُظهر هنا إشكالية نظرية الرواية التي مازالت تشغل الدارسين على اعتبار ان عمرها الفعلي في ثقافتنا الابداعية لايزيد على قرن تقريبا.
ففي مقالة هذا الكتاب الاولى (يتكون الكتاب من عشر مقالات)، وهي بعنوان "الرواية: الماهية، والنشأة والتطور"يشير المؤلف، كما اشار غيره من النقاد العرب من قبل، معتمدين على النقد الآخر، وخاصة على نقد باختين، إلى ان الرواية "تتخذ,, لنفسها ألف وجه، وترتدي في هيئتها ألف رداء، وتتشكل امام القارئ، تحت ألف شكل، مما يعسر تعريفها تعريفا جامعا مانعا (11)", لذلك ينشغل مرتاض مثل غيره في التفريق بين الرواية وبين اجناس ادبية اخرى كالملحمة، والشعر، والمسرحية، ليتوصل من مقارناته هذه الى ان الرواية خطاب منفرد بذاته، وفي الوقت نفسه جنس ادبي له ارتباطات وثيقة بعامة الاجناس الادبية الاخرى، لتبدو الرواية وكأنها عالم شديد التعقيد، متناهي التركيب، متداخل الاصول، لها علاقة قوية بالتاريخ، والمجتمع، حاملة في بنيتها رؤية العالم, وهنا تصير الكتابة النقدية في ماهية الرواية وكأنها كتابة ابداعية يتغزل فيها شاعر ما بسطوة حبيبته التي تملك كل الجماليات.
ويتحدث عن اثر المدرسة الامريكية في تطور الرواية، وعن نوعين مهمين في فضاء الرواية، وهما رواية التجسس المنتشرة في الغرب، والرواية الحربية او الوطنية التي تعد اشهر الانواع الروائية في الادب العربي، معتذرا عن متابعة الحديث عن انواع الرواية الاخرى، وخاصة روايات الوثائق، والمسلسلة، والغرامية، والجنس، والطفل، والنفسية.
ولا نعتقد ان هذا الفصل، او هذه المقالة حملت شيئا جديدا، مفارقا لما جاء في كتابات الموسوي تحديدا، ونبيل سليمان، وسامي سويدان، وسعيد يقطين، وغيرهم، وأبحاث الروائيين العرب في مؤتمراتهم المختلفة، أو مفارقة لما جاء في كتاب "الخطاب الروائي"لباختين,, واشارات الكتاب كافية في توثيق الكثير من الاقتباسات والمرجعيات الغربية، وكان يجدر بالمؤلف ان يهتم بكتابات النقاد والساردين العرب المحدثين للتأسيس لنظرية الرواية، حتى يشعرنا بضرورة اهمية فاعليتنا الثقافية المعاصرة، لا أن يجعلنا صدى سلبيا للثقافة الغربية، وهامشية غير مفيدة في ذاتها كما لاحظنا ذلك في مقدمة كتابه في مقالة ماضية.
***
وفي المقالة الثانية "أسس البناء السردي في الرواية الجديدة"نعتقد ان هذه المقالة من اهم مقالات الكتاب، لان المؤلف يقارن فيها بين نمطي الرواية التقليدية التي سادت في كتابات ما قبل الحرب العالمية الثانية، والرواية الجديدة التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية، هذه الحرب التي اوجدت اشكالا جديدة في الكتابة والفكر، حيث تغير التفكير الفلسفي بظهور الوجودية، وتغير التفكير النقدي بظهور البنيوية، وتغير الشكل الروائي بظهور الكتابة الجديدة,, هذه الكتابة "التي تثور على كل القواعد، وتتنكر لكل الاصول، وترفض كل القيم والجماليات التي كانت سائدة في كتابة الرواية التي اصبحت توصف بالتقليدية، فإذا لا الشخصية شخصية، ولا الحدث حدثا، ولا الحيز حيزا، ولا الزمان زمانا، ولا أي شيء مما كان متعارفا في الرواية التقليدية متآلفا اغتدى مقبولا في تمثيل الروائيين الجدد (ص،ص 53-54) كما يقول مرتاض، بحيث مال كتاب الرواية الجديدة الى تمزيق الشخصيات واضطهادها وتمزيق الحبكة الروائية، وتدمير التركيبة الزمكانية,,, الخ.
وبخصوص عوامل نشأة الرواية الجديدة يحدد مرتاض العوامل الاربعة التالية: الحرب العالمية الثانية، والحرب التحريرية الجزائرية، واستكشاف السلاح الذري، وغزو الفضاء, كما يعرف مصطلح الرواية الجديدة، ويشير إلى طلائعها وملامحها عند كتاب كثيرين من غير العرب، منتهيا الى التأكيد على ان الرواية الجديدة تشكل مدرسة بامتياز (ص81) .
ففي الوقت الذي لا يستخدم فيه المؤلف اية وثيقة روائية عربية معاصرة، نجده بطريقة تعسفية يجعل من حرب التحرير الجزائرية احد اسباب نشوء الرواية الجديدة في فرنسا، لمجرد صدور بعض الروايات والكتب النقدية الفرنسية مصادفة مع هذه الحرب، واعتمادا بشكل مباشر على مقولة للناقد الفرنسي "ريمون جان"يشير فيها الى المصادفة بين الرواية الجديدة وحرب التحرير, أليس في هذا مفارقة مريرة؟!
***
إن "الشخصية: الماهية/ البناء/ الاشكالية"عنوان المقالة الثالثة في الكتاب، وفي هذه المقالة يقارن مرتاض اولا بين مصطلحي الشخصية والشخص مفضلا استخدام مصطلح الشخصية، ثم يوضح اهمية الشخصية في الروايات التقليدية والجديدة, ويتحدث عن علاقة الشخصية بالضمائر الثلاثة الغائب والمتكلم والمخاطب, كما يحدد انواع الشخصية بمسمياتها المختلفة: المركزية، والثانوية، والخالية من الاعتبار، والمدورة، والمسطحة، والايجابية، والسلبية، والثابتة والنامية, ويفرد عنوانا فرعيا للمفارقة بين شخصيتي المدورة (النامية) والمسطحة (الثابتة)، وعنوانا آخر لتوضيح علاقة الشخصية بالمشكلات السردية الاخرى، وينتهي من هذه الى القول: "إن الشخصية هي التي تكون واسطة العقد بين جميع المشكلات الاخرى، حيث إنها هي التي تصطنع اللغة، وهي التي تبث او تستقبل الحوار، وهي التي تصطنع المناجاة، وهي التي تصف معظم المناظر (ص103-104)".
وينتهي من هذه المقالة بالاشارة إلى ثلاث مراحل مرت بها الشخصية في القرون الاخيرة، وهي: مرحلة التوهج والعنفوان والازدهار، حيث انتجت هذه الشخصية في الروايتين التاريخية والاجتماعية، وكان اهم من احتفل بها في هذه المرحلة بالزاك، وزولا، وفلوبير، وسكوت،وتولستوي، وكافكا، ومحفوظ, ومرحلة التشكك والاهتزاز التي اعقبت الحرب العالمية الاولى، حيث الشك بامكانية صدق تصوير الشخصية لصور الحياة الاجتماعية المختلفة، ومثل هذه الكتابة السردية اندري جيد، وجيمس جويس، وفيرجينيا وولف, ومرحلة انكار وجود الشخصية خارج اللغة، وتمثيلها لصور الحياة الاجتماعية، وتميزها على بقية عناصر السرد الاخرى، ومثل هذه المرحلة ألان روب جريي، وناطالي صاروط، وكلود سيمون، وميشال بيطور، وصمويل بيكيت.
***
ان ماهية الرواية وتطورها ما زالتا تلعبان دورا حاسما في اية كتابة نقدية سردية، بل ان تعريف الرواية بحد ذاته هو اشكاليتها الفنية الاولى، ومن تعريفها المنفتح المتعصي المتداخل الاجناس، يمكن ان نثبت مبدئيا ان نظرية الرواية هي نظرية مفتوحة وليست مغلقة، وان اية كتابة في هذا الفضاء هي تجميع لرؤى وأفكار مختلفة وتصورات مستنتجة من مجموعة النصوص السردية.
اما بخصوص المفارقة بين الروايتين التقليدية والجديدة فإذا كنا نقر ان التطور في الابداع في مختلف الاجناس الادبية والفنية جاء مع الحداثة بعد الحرب العالمية الثانية، فإننا لا ننكر ان هناك كثيرا من النصوص التراثية تعد جديدة ومتجددة، وان مسألة التقليدية والجدة ليست محصورة في الزمن بقدر ما هي مسألة موجودة داخل النصوص، إذ كل تقليدي هو جديد في زمنه، ومتجدد في أزمنة لاحقة، وهذه مسألة يدركها الجميع، لكن الرواية الجديدة، في التصور العام، استطاعت ان تكسر رتابة عناصر السرد المختلفة وتسلسلها، وسعت الى خلط الاوراق الفنية والجمالية المألوفة (بطريقة جديدة) بعضها مع بعض، لتصبح الكتابة اكثر اشكالية، واعمق تاثيراً في خلخلة ذهنية المتلقي.
وليس لدينا شك في ان الشخصية السردية لعبت وما زالت تلعب الدور الحاسم في مقاربة الخطابات السردية، وانه لا يمكن قراءة بقية عناصر السرد بعيدة عن حركية الشخصية ورؤاها، دون اغفال كون كل عناصر السرد الاخرى مهمة بدرجات متفاوتة، وان الكتابة عن اي عنصر في السرد، سواء في فضاءات الشخصية، أو الزمان، او المكان، او الحدث، او الآلية اللغوية، او الجمالية,, يمكن ان ينتج صفحات كثيرة، وكل هذا بسبب كون لغة الرواية لغة ممتدة ومتشابكة، ولو وزعنا لغة رواية من ثلاثمائة صفحة - على سبيل المثال - على ستة عناصر سردية، لاخذ اي عنصر خمسين صفحة بطريقة التساوي، اضافة إلى ان اي عنصر لايشتغل لوحده مطلقا، وإنما يشتغل بطريقة التشابك الحميمي مع بقية العناصر الاخرى.
|