ما أنبل المشاعر حين تتوحد,, فرحا كانت او آلاماً,, وما أصدقها حين تتحد حزنا على مصاب واحد,.
وما أكرم اليد التي تمتد اليوم لتتلقى عزاء طالما قدمته بالامس, وما اعظم دموع منعت سقوطها محابس الرجال من مآق ألهبها الفراق,, وجفون اسهدها مشهد الوداع.
دموع خفف من انحدارها وجودها في كل العيون,, فاختلط صاحب العزاء بالمعزين في اروع صورة وفاء قلما تشهد العين لها صنوا متشابها او غير متشابه.
وانطلقت الالسن بالدعاء لاهجة,, ورجع صداها يسأل المولى القبول, وتفرعت صفوف البشر تبحث عن رجال لم ينسهم الحزن الشموخ,, فقد ارضعتهم - يرحمها الله - لبنه حين الولادة,, وعلمتهم وقفته يا فعين,, وامتحنت ممارستهم له رجالا,, فاطمأنت ورحلت راضية مرضية.
وجاءت الوفود دونما ترتيب مسبق او بروتوكول متبع لتحيل دار فيصل العز إلى ساح عزاء تعج بكل الاجناس,, متساوية في رحابه كل المناصب,, متماثلة في قاعاته كل الطبقات,, تتجه عيونهم شاخصة الى شموع اذابها الحزن,, دون ان يذهب بتوهجها الذي طغى احمراره على صفاء المآقي الذي اعتاد فيها السكون,.
وتسللت يقظة الألم الى قسمات اعتادت ان تكون مهاجع للحلم والامل.
ولكم تملكني احساس بالمرابطة امام فيصل وأنا احتضن يده بكلتا يدي,, وكاد شعور الحب ان يسمرني امام قامته الغارقة في البياض، بعدما ألقى الحزن رداءه المطرز بعيدا عن كاهليه وكأنهما يرفضان حملا آخر غير احتمال قضاء الله وقدره.
وكم راودتني مشاعري وانا اطبع قبلة عزائي على كتفه ان ألقي برأسي على صدره الرحب علني استطيع ان انتشل من قلبه الكبير جزءا من حزنه الاكبر اضمه الى احزاني التي جئت احملها معي,, وإذا بجلجلة الألم خلفي تدفعني للانصراف مكرها تاركا قلبي بين يديه, وتاركا يده لايد صادقة محبة توالى امتدادها تقدم للامير العزاء.
وقادتني خطوات هائمة الى صف آخر كان يتجه إلى شمعة اخرى يضيئها زيت الالم,, وتسرج فتيلها نار اللوعة,, لم أره حزينا في حياتي - وأتمنى ألا أراه حزينا أبدا - ورحت ارسل البصر كرتين لأتأكد ان الشاخص امامي هو سلطان,, أمير الامل المتفائل والرجل الذي لا تغير الاحداث ملامحه,, ولا تبدل المواقف لون الفرح في عينيه,, فوجدت نفسي وجها لوجه امام انسان مختلف، اختلافا يؤكد ان الحزن علامة الاقوياء وان الصبر امتن اردية الصادقين.
لم يسمح له الناس ان يواصل طريقه الى جوار شقيقه الاكبر,, فاستوقفوا محمداً عند درجات الصعود,, وكأنهم يخافون ان يتجمع الحزن في صف واحد,, أو ان تنتصب هاماته كلها على خط مستقيم,.
بعدما تعودوا رؤيته أميراً للشرق في مملكتهم واقفا بهامته الفارهة كغيمة ظل تحجب عن الناس هجير الشمس,, يهرعون إلى ظلال حرصه وتفانيه,.
كان ذابلا شاحبا وكأن سيل الحزن العرمرم قد جرف كل نضارته دفعة واحدة.
في مشهد حزن وجمع حزين لم ترهما عيناي من قبل,, كان على الناس ان تعزي كل من تصادف من غير ابناء الراحلة الكريمة - أسكنها الله فسيح جناته - وكأنما الناس تخشى ان يوقف رحيلها منبع الطاقة الانسانية الهائلة التي كانت تضخ الحب والوفاء في قلوب ابنائها الامراء.
وفي خشية الناس هذه خوف على ما تعودوه من رحمة وتراحم وصلة وتواصل ربطت بين الناس وبينهم,,ولكن القلوب التي احبت امها بهذه الدرجة,, ستظل تحب امتها بكل درجات الحب,.
ولعل الترابط في الشكل وفي المعنى بين الام والامة هو ارتباط ازلي بيننا وبين كل من نحب,, حتى وإن رحل,, فسنظل نحب ما أحب وما كان يحب حبا في الله ثم فيه,.
وقد لا يعني الرحيل نهاية بقدر ما يكتب الكثير من البدايات وقد لا يلف الموت أمرا قدر ما يكشف الكثير من الامور.
وقد كشف بالامس حجم الحب الذي يكنه الناس، كل الناس لفيصل وإخوانه,, ولقد أوضح لهم بالامس ان الاعمال الصالحة لا تموت وإن رحل اصحابها,, وان الخير لا يبلى وان مات صانعوه,, وان الأم باقية إن هي تركت للامة رجالا بحجم فيصل ومحمد وسلطان وسعود وخالد,.
رحمها الله رحمة واسعة,, وحفظهم لنا أكفاً بالحب غامرة,, وسواعد على البناء قادرة,, وصدورا بالوفاء عامرة.
وصدق الله العظيم القائل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وأدخلي جنتي).
|