Sunday 14th March, 1999جريدة الجزيرة 1419 ,الأحد 26 ذو القعدة


مساحات بيضاء
جراح الفن,, بين الوصل والقطيعة
3-4
ريمة الخميس

علاقة الشكل بالمضمون، قضيتنا الثانية والأخيرة - على ما أرجو - مسألة بالغة التعقيد، اكتفى إزاءها المبدعون بتصريح يغلق ابواب المراجعة والمحاجة إراحة للدماغ، فقالوا: إن كل تجربة تبحث عن شكلها المناسب وتتلبسه وترفض سواه وإذا شاء احد الفضوليين ان يسأل: كيف؟ واجهته إجابة اخرى القفل على الباب المغلق: هذا سر من اسرار العملية الابداعية، انا نفسي لا أتدخل ولا اختار ولا أعرف كيف يتم ذلك، اختيار الشكل تفرضه عليّ التجربة! .
وإذن فكيف استطاعت تلك الفنانة التي اعلنت أنا ارسم بكل الاساليب والاشكال ان ترتفع بقدرتها وموهبتها على القضية كلها؟، ومع اول اختبار بسيط يتبين انها تمارس عملها بأسلوب ماتدري عنه شيئا!! أهي موهبة فطرية علينا ان نساندها، أم ادعاء كبير يخرج عملها من دائرة الفن؟
لنحتكم إلى تلك الشواهد الصارخة في تاريخ الفن، والتي حدد كل منها لحظة الميلاد لمدرسة او اسلوب او شكل فني، لنبحث فيها عن اسباب وجودها,.
من كل تلك الشواهد يبدو الفنان دائما نسخة مجددة من ذلك الفيلسوف الكلبي، ديوجين، الذي أدرك ضياع الحقيقة وتقصير ضياء الشمس عن قدرة الكشف عنها، فاستعان بمصباح الزيت، اشعله وراح يبحث عنها في ضوئه,, كذاك الفنان ملأ عينيه من وضاءة الالوان ونصاعة الضياء، وملأ وجدانه حبا مبهورا ومفتونا بسحر الطبيعة وصورها بهذا الوجد، لكنه عاد ليدرك ان الحقيقة التي امسك بها، عبر شكل افرط في واقعيته، قد اضاعها، لانه جمد الحياة في المشهد النابض في الطبيعة، واماته على سطح اللوحة في الالوان، لقد ادرك ان هذا الشكل الحرفي في النقل لا يشبع في الموضوع كنهه ومضمونة فتحول عنه بمصباحه الزيتي! وقد كتب ادباء معروفون مثل بلزاك واميل زولا وغيرهما يطالبون الفن بأن يصور واقعا جديداً كان الادب قد التفت إليه وتخلف عنه الفن.
استجاب الانطباعيون لنداء الادباء، ووجدوا ان الحقيقة الضائعة يمكن ان تكون في الزمن فاختاروا من عمر المشهد اثناء تأمله لحظة واحدة، مقررين انه لا يثبت إلا تلك اللحظة الدقيقة التي تطل عبرها حقيقته، لانه في اللحظة التالية يتغير، وصوروا المشهد في زمن حرصوا ألا يطول عن تلك اللحظة المدركة حتى لا يتغير قبل ان يفرغوا، فصلوا الالوان، فجاوروا الازرق والاصفر، بدلا من الاخضر الذي تراه العين واطمأنوا انهم من خلال هذا الاسلوب الشكلي في التصوير قد امسكوا بالمضمون في الموضوع,,!
لكن لون الطبيعة الاخضر، الذي حلله إلى عناصره الانطباعيون على اللوحة عاد فالتأم والتم في عين المشاهد من جديد ليراه خداعا بنفس لون الطبيعة ومن ثم فرت مرة اخرى الحقيقة ليعاود الفنان بحثه.
كل الاساليب الفنية يقف خلفها هذا البحث، السيرياليون رأوا ان خلف كل حقيقة واقعية حقيقة تتجاوز الواقع إلى ما وراءه، امسكوا بها ثم افلتوها ليجددوا البحث، والتكعيبيون خلصوا اشكال الواقع من ملامحها المحددة التي تسجن بداخلها، وعددوا المنظور الواحد ليمسكوا بحقيقة الشكل في كل ابعاده فحرروا الرؤى من الانحسار في الملامح الفردية لكل عنصر الى رحابة الممكن الذي يستوعبه شكل هندسي,, لقد رأوا أنهم هكذا، بشكل التصوير عبر هذا الاسلوب قد أمسكوا بالمضمون في موضوع اللوحة!
لكن مصورا عبقريا مثل بيت موندريان اعلن ان التكعيبية هكذا قد غيبت الحقيقة، وان تلك الحقيقة يمكن ان تكون هناك، في ادراك ان كل اشكال العناصر في الحياة، جوهرها خط واحد رأسي كالرجل او الشجرة، او خط افقي لذراعين ممدودتين إلى الجانب او لافق او نهر او طريق، وما حول هذا الجوهر او اللب تزيدات يمكن تجريده منهار ونعى على التكعيبية التي امسكت بالبعد الثالث انها لم تستطع ان تجرده إلى درجة الصفر، كذا تكون الحقيقة في تقليص الحركة حد الثبات، وضغط الزمن حتى تلامس بدايته نهايته عند صفر يلغيه، وحرمان المعنى من دلالة المعنى,, لقد رأى التجريديون انهم هكذا قد قبضوا على الحقيقة الضائعة بمصباح موندريان، بهذا الشكل عبر هذا الاسلوب، حتى إذا ما لامسوها فأحرقتهم، اطلقوها ليعاودوا البحث عنها.
هذا موضوع يطول، لكنه يستدعي سؤالا وإجابته: هل كان الفنان في هذا البحث مهموما بابتكار شكل فني وأسلوب جديد؟ والاجابة بلا تردد: نعم، وإنما علينا ان نتأمل اسباب هذا البحث الشكلي ولقد اعترفنا منذ لحظة ان تلك الاسباب هي رغبة في الوصول الى شكل قادر على الامساك بالحقيقة، تلك الحقيقة هل يمكن ان تكون كامنة إلا في موضوع تمثل مضمونه وجوهره؟ ان المعنى الذي لا جدال فيه هنا، ان البحث عن الحقيقة لم يكن قصرا لمهمة الفن على الشكل، بل دأبا لايجاد شكل يكرس لتحقيق طموح الموضوع في الاعلان عن مضمونه وجوهره! إذا كانت الاشكال السابقة - كالواقعية والانطباعية وغيرها - قد قدمت تعميقا لمدارك الحس في السمع والبصر، فإن اشكالا اخرى اتت بها الرمزية او التكعيبية او التجريدية قد حررت المضمون من قبضة المدرك الحسي للموضوع، وعهدت به إلى تجنيح الرؤى في وعي ثقافة الدماغ!
يبقى السؤال: لماذا كانت الحقيقة التي يمسك بها الفن في شكل من اشكال مدارسه تفر عنه إلى شكل آخر؟
هذا أمر طبيعي لانها لم تكن وهما ميتا فيزيقيا، بل معطى جديدا يطرحه كل عصر جديد يتغير فيه الظرف الانساني بهمومه السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
هل يبدو هنا ان هم البحث عن شكل قد كان هم القبض على مضمون، وإن ذلك المضمون قد كان رهينا بظرفه وعصره؟
لنر إذن فيالجزء المتبقي من هذا الكلام مدى التفات حركتنا التشكيلية إلى الوعي بذلك.
رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
القرية الالكترونية
حوار
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
مئوية التأسيس
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved