مسرح,, ونقد مسرحي: آلو ,, تشيخوف عرض متميز في المعهد العالي للفنون المسرحية بسورية |
* يمتاز المعهد العالي للفنون المسرحية في سورية، ليس في كونه يرفد الحركة المسرحية خصوصا، والفنية عموما، بوجوه شابة جديدة باستمرار، لتكون لبنة أساسية تضاف الى ما سبقها في تشكيل الحركة الفنية في سورية فقط,.
فهو الى جانب ذلك يمتاز بتقديم عروض مسرحية متميزة خاصة تلك التي تطال السنة الاخيرة فيه - اي سنة التخرج - حيث يتوفر لهذه العروض، كل عوامل النجاح الممكنة، إذ ان الفنان - الطالب، متفرغ لتقديم العرض، وليس لديه أي شاغل آخر غيره.
الاستاذ المشرف على عرض التخرج، متفرغ لعمله ايضا، يضاف إلى ذلك اختيار النصوص المستمدة من الأدب المسرحي العالمي، او المكتوبة خصيصا للتخرج بحرفية عالية، وهذه العناصر مجتمعة، مع الإمكانات المادية اللازمة، تسمح لعروض التخرج ان تصل الى المشاهد باحتفاء متميز، حتى يمكن القول، ان هذه العروض، بات ينتظرها عشاق المسرح من موسم لآخر.
أربعة شباب، وشابتان فقط، انتهوا مؤخرا من تقديم عرض تخرجهم الاول، في المعهد العالي للفنون المسرحية، تحت عنوان آلو,, تشيخوف المستمد كما هو واضح من العنوان، من أعمال الكاتب الروسي الساخر والشهير - تشيخوف,.
أشرف على العرض، استاذ مادة الصوت في المعهد الروسي فيودور .
الاستاذ فيودور لم تكن هذه تجربته الاولى مع طلاب المعهد، إذ سبق له أن قدم العام الماضي عرضا متشابها، مأخوذا عن نص الكاتب الروسي الشهير دوستو يفسكي في الجريمة والعقاب ؟
ميزة العرض الاولى ، انها تترك الطالب وحيداً على خشبة المسرح من اي ديكور، مواجها الجمهور بما يملكه من موهبة خاصة به، حيث يرى الجمهور ما وصل اليه اعداد الطالب من سوية فنية، خلال سنوات دراسته.
ونذكر هنا ، ان عرض آلو,, تشيخوف قد جاء في فترة زمنية قياسية، لم تتجاوز الشهر الواحد من إعداد النصوص، وصولا الى لحظة العرض.
واذا كان عرض آلو,, تشيخوف ، قد افتقد وحدة النص، واعتمد المشاهد المسرحية المنفصلة، إلا أنه أظهر ما لدى الطلاب من امكانية فنية.
ظهر ذلك واضحا من خلال القراءة الجيدة للنصوص المقدمة، وتفهم الحالة النفسية لكل شخصية، مع الفهم العميق للمفارقة الكوميدية، والانسانية، التي تميز أعمال تشيخوف عادة.
سبعة مشاهد في عرض واحد
شمل العرض، سبع قصص من أعمال تشيخوف هي: الخطيب,, وقدمها ثلاثة طلاب هم: باسل الخياط بدور الخطيب، وقصي خولي صديق الخطيب، والمرحوم الذي لعب دوره مروان ابوشاهين.
الخطيب
ويتناول هذا المشهد مفارقة كوميدية وإنسانية، إذ يقوم الخطيب المفوّه بالقاء كلمته التأبينية في وداع الفقيد، وهمه الأول ان ينتهي من تعداد مناقب الفقيد بسرعة، كواجب ثقيل، ليتفرغ من ثم للشراب، ولكنه يقع في خطأ في سهو بسيط، اذ ينعي شخصاً آخر موجوداً بين الحضور, واللافت في هذا المشهد، اداء الطالب قصي خولي، الذي استعرض في حركات خلف الخطيب، بشكل ايمائي - كل الانفعالات التي ترافق الخطيب، مما اعطى المشهد بعدا كوميديا إضافيا، لم يكن ليتوفر له لولا هذه الاضافة المتميزة من قصي خولي.
مع سبق الإصرار
المشهد الثاني جار بعنوان مع سبق الاصرار وقدمه عروة النيربية، ومروان ابوشاهين، وفي هذا المشهد تظهر مفارقة تشيخوف المضحكة المبكية، في آن معا، حيث إن الفلاحين، يفكون صواميل سكك القطارات، دون أن يدركوا مدى خطورة ذلك على حوادث القطارات التي يمكن ان تقع.
إذ لا يتخيل اي فلاح، ان نزع صامولة، سيؤدي الى انقلاب القطار.
وقدم الطالبان المشهد بشكل جيد، بين المحقق الذي يعرف أهمية وخطورة ما يفعله الفلاح، فيما هذا الفلاح يعتقد ان ما يقوله ليس سوى بضع كلمات يغادر بعدها الى منزله، وجاء الاداء متسما بتلك الروحية ذاتها، بين إدراك المحقق، وغباء الفلاح البسيط.
دموع لا يعرفها العالم
المشهد الثالث كان عنوانه دموع لا يعرفها العالم ، وهنا ظهرت كوميديا تشيخوف الانسانية، حيث ثلاثة اصدقاء يعودون بعد سهرة عامرة، مقررين ان يستضيفهم واحد منهم هو - قصي خولي - كي يتناولوا خيارة فقط.
لكن هذه الخيارة، كانت تستلزم إقناع الزوجة (التي كانت تغط في نوم عميق) باعطاء الزوج المفتاح، كي يدخل الى المطبخ، ليحضر الخيار لصديقيه,.
وبعد توسلات، وتضرعات، الزوج لزوجته، تخرج الزوجة بنفسها لاستقبال الضيوف، الذين يهنئون الزوج على سعادته الزوجية.
وهذا المشهد بكامل مفارقاته، يظهر فيه قصي خولي، بأفضل حالاته، حيث لعب على الشخصية بمنتهى المهارة، فهو من جهة لا يريد أن يظهر امام اصدقائه ضعيفا ولا يحكم منزله، وفي الوقت ذاته يبدو من خلال النقاش مع زوجته يخشاها كثيرا,.
والاداء جاء من خلال الحركات العفوية، والالفاظ، والمغالطات المبالغ فيها، من أجل إقناع الزوجة بالتخلي عن بعض الخيار للاصدقاء.
الآنسة والكبش
المشهد الرابع: عنوان الآنسة والكبش ، قدمته سلافة معمار، وباسل الخياط، وقصي خولي وهنا تبدو مفارقة جديدة في هذا المشهد، حيث الضيفة قادمة من اجل الحصول على بطاقة سفر مجانية الى بلدها في القطار لتكتشف في النهاية انها أخطأت بعنوان الشقة التي دخلتها، وقد استثمر صاحب الشقة هذا الخطأ - جيدا - فحاول ايقاعها في شباكه، قبل ان يفصح لها عن حقيقة هويته، فتكتشف متأخرة انها قصدت الشخص غير المعني.
مرة اخرى ، ادرك الطلاب في هذا المشهد العمق النفسي لهذه الحالة الانسانية، وتعاملوا معها بفهم شديد.
المغفلة هو عنوان المشهد الخامس، الذي قدمه مروان ابوشاهين، رغداء شعراني,.
ويبدو فيه رب منزل، وهو يحاسب خادمته، وبعد ان يهبط بأجرها بحسومات وهمية،الى الحد الأدنى، وهي توافقه على كل شيء، يثور غاضبا من خنوعها، وتذللها، وهي تشكره بلطف، على ما أبقاه لها من روبلات بسيطة، يدفعها لها، وهو يشعرها بأنها اكثر مما كانت تستحق، فيختتم المشهد بقوله:
ما أسهل ان تكون قويا,, ويعني طبعا بحضور المغفلين,, وقد تميزت حركات، واداء هذين الطالبين، بأناقة ما ينتمي اليه الاول، وخنوع الخادمة التي تمني نفسها بأنها ستقبض في المحصلة بعض حقها، فتشكر سيدها بلطف لأنه منحها شيئا,, في الوقت الذي كان فيه الآخرون لا يمنحونها اي شيء.
مغنية الكورس
مغنية الكورس كان المشهد السادس، وفيه قدمت سلافة معمار، ورغداء شعراني، وباسل خياط، عملية نصب من زوجة -يفترض انها نبيلة- على المغنية الرخيصة فتسلبها كل ما تملك، بعد ان تضبط الزوج في منزلها، هذا الزوج الذي اخفته المغنية لحظة دخول الزوجة الى منزلها، ومن وراء الستار يكتشف الزوج، بأن زوجته التي كان يقدسها كان اشد رخصا من المغنية ذاتها، فهي قد ركعت، وتذللت امامها، في سبيل ان تسترد بعض ما ادعت أن زوجها قدمه لها - هدية -
الطلاب قدموا هذا المشهد، بتحرر من النص في بعض المواقع، وخاصة فيما يتعلق منها بانتقال حالة الحب، وتمثلها، ما بين الزوج الخائن، والمغنية المغلوبة على امرها، اذ تحول حب الزوج لها - (بعد أن كشفت له من حيث لا تقصد مدى رخص زوجته النبيلة),, الى احتقار لا يوصف,.
كالخاس
المشهد الأخير في مسرحية آلو,, تشيخوف كان بعنوان كالخاس وقدمه عروة النيربية، ومروان أبوشاهين، اذ يتناول ممثلا مسرحيا يكتشف نفسه تائها في المسرح الخالي من الناس، ويحاور نفسه مبديا ندمه على ما بدده من سنوات عمره الضائع في خدمة المسرح وإسعاد الجمهور، ليلقى نفسه أخيرا، وحيدا منسيا على خشبة المسرح، بعد انتهاء العرض الأخير - كآخر فصل من فصول حياته، فيسأل بلا جدوى من أنا؟,, أنا لا شيء؟,, لا أحد يحبني ,, ويحاول الملقن المسرحي الذي ينام في المسرح عادة، التخفيف عن كالخاس، دون جدوى، فلا يجد نفسه إلا مرددا معه ذات العبارة، التي تتناول أهمية المسرح في حياتنا، ومدى جدواه، وفائدته,, ومع نهاية هذا العرض الشيق، يطرح موضوع مسرحية التخرج آلو,, تشيخوف نفسه بقوة علينا، خاصة أن هذا النص، يغدو بمثابة شهادة ميلاد لطلاب المعهد، الذين يتأهبون بعده للدخول في الوسط الفني.
هذا الوسط الذي يحرص الجميع على حضوره، لرؤية زملاء المستقبل، خاصة اذا ما وضعنا في الاعتبار، رفد المعهد العالي للفنون المسرحية في سورية -على مدى عشرين عاما خلت- للحركة الفنية، بوجوه عديدة متميزة، هي حاليا من أعمدة الفن في سورية.
وهكذا تبدو عروض التخرج المحك الأصعب لطلاب المعهد، في لقائهم مع الجمهور، كما تغدو هذه العروض المتميزة لبنة أساسية في صقل المواهب الفنية، ودفعها بقوة نحو الامام,.
|
|
|