قراءة في ملاحم وأساطير أوغاريت |
* ظهرت الميثولوجية الاغريقية الى العالم، في منتصف الألف الأول قبل الميلاد، ومنها تدرج الأغريق في تطوير الدراما ملهاة- ومأساة في نهاية القرن الخامس وبدايات القرن السادس قبل الميلاد.
وفي العودة الى هذه الأساطير والملاحم، نلحظ تشابها كبيرا بينها، وبين الميثولوجية السورية التي سبقتها بمئات السنين، والتي عرف من بينها، بل وأشهرها جلجامش التي ترجمت الى مختلف لغات العالم .
ومن يتابع هذه الملحمة، يلحظ مدى اقترابها من الشكل الحديث للملحمة، أو الأسطورة الاغريقية، وبين جلجامش وأساطير وملاحم الأغريق، نشأت ملاحم وأساطير كثيرة في الميثولوجيا السورية، في سومر، وبابل، وأوغاريت، أو صور وصيدون، وغيرها,,
هذه الملاحم والأساطير كانت تفسيرا أو تخيلا، ومحاولة سيطرة على قوى الطبيعة، التي يبدو أنها كانت تترك آثارا سلبية في بعض الأحيان، على حياة السكان، هذه الملاحم والأساطير كانت، اذا جازت المقارنة، كالفن، والاعلام، وغيرها في حياتنا اليومية المعاصرة، أو لنقل كانت أكثر شبها بالحكايات العربية التي ترويها الجدّات في المساء، أو التي تطورت الى الحكواتي فيما بعد.
ملاحم وأساطير أوغاريت، لم تختلف عن الملاحم السورية في اطارها العام، بل تزيد عليها في تأثرها أحيانا بالأدب، والفن، وغيرهما، لما كانت عليه العلاقات الحسنة في تلك الفترة وخاصة فترة تدوين هذه الملاحم والأساطير في عهد الملك نقماد الثاني 1370-1340ه قبل الميلاد, ولمعرفة أدق بهذه الملاحم، لابد من الإلمام ببعض مضمونها.
فقد وجدت ملاحم وأساطير أوغاريت محفورة على عشرين رقما فخاريا وهي تشكل ست قصائد مستقلة منها: أربع ملاحم تتحدث عن القوى الخارقة واسطورتان يلعب فيهما البشر دورا رئيسيا.
دونت هذه القصائد في عهد الملك نقماد الثاني عن رواية الكاهن الأكبر في أوغاريت - أتينبرلانو- وبخط الكاتب إيلي ميلكو- الملاحم هي:
1- دورة البعل.
2- مولد الفجر والغروب.
3- زواج القمر أنشودة ننكال .
4- الرفائيم.
أما الاسطورتان فهما:
1- اقهت بن دانييل.
2- كارت.
دورة البعل
وهي عبارة عن سبع لوحات، ليس هناك اجماع على ترتيبها، حيث يختلف بعض الدارسين في ذلك.
وهذه الملحمة تتحدث عن موت البعل، رمز البرق والرعد والمطر- وبعثه من جديد، من خلال صراعه مع موت، رمز العالم السفلي أي الموت.
وتجسد القصيدة دورة الحياة في الطبيعة، أي توالي الفصول، وما يرافق ذلك من تحولات، أمطار، جفاف، خصب، قحط,, حيث ان الصراع الطويل بين بعل وموت، ينتهي لصالح -موت- دائما.
وهذه هي طبيعة الحياة، لكن بعد الموت هناك دائما -البعث ايضا.
وعلى العموم يرمز البعل الى شاب وسيم، يعمل للحياة ويكره الموت، ويحمل بيده عصا ترمز الى الخضرة، وبالأخرى صاعقة ترمز الى انه رمز البرق والرعد،وبالتالي المطر، ومسكنه أعالي جبل صافون - أي الأقرع حاليا.
في حين يرمز موت، الى الموت أو العالم السفلي، وعمله هو القضاء على الحياة، فيأمر الشمس لتحرق العشب، وتجفف الزرع، وتعجل الحصاد, وهو يسكن واديا سحيقا، يؤدي الى ما تحت الأرض.
مولد الفجر والغروب
وصلت هذه القصيدة على لوحة واحدة، محفورة على الوجهين، واذا كانت -دورة البعل- تصف دورة الحياة في الطبيعة، فهذه القصيدة تتحدث عن ايل رمز الخصوبة والعقم في نفس الوقت.
وعندما دونت ملاحم وأساطير أوغاريت،كان ضعيفا وطاعنا في السن، ويسكن عند منبع النهر، قرب مصدر المحيطين، ويقابله -زيوس- عند الاغريق.
زواج القمر
أنشودة ننكال
في هذه القصيدة، يرى الأوغاريتيون علاقة بين الخصوبة البشرية ودورة القمر اليومية والشهرية,,
والقمر عند الأوغاريتيين مركب من زوجين هما:
ننكال- الأنثى، ويرح- الذكر، ويتقابل الاثنان عند الغروب، فينجبان -طفلا-.
الرفائيم
وهي عبارة عن ثلاث كسر، من ثلاث لوحات، وقد اصطلح علماء الأوغاريتية على ان يعتبروها ملحقا بأسطورة أقهت، حيث يزور الرفائيم،دانييل والد أقهت، على بيدرة، فيقدم لهم تينا، وتفاحا، وربما كانت هذه الملحمة جزءا من -دورة البعل- حيث يرد فيها خبر تتويج البعل.
والرفائيم تعني -الأشباح-.
أسطورة أقهت ابن دانييل
اربع لوحات ناقصة، وكثيرة التشويه تمثل اسطورة أقهت، القاضي العادل دانييل له ابنة اسمها -فوغة- لكن لا ولد ذكر له، ويدعو -إيل- الذي يستجيب لدعواه، فتحمل زوجته وتضع صبيا يسمى -أقهت- وعندما يصبح -أقهت- شابا قويا، يحصل من كوثر خسيس -رمز البناء والفنون- على قوس رائعة تغار منها - عناة - وهي رمز الصيد، فتحاول عناة اقناع -أقهت- بإعطائها القوس، وتغريه كثيرا حتى يمنحها إياها,, فتقول له
اطلب الحياة لأعطيك الخلود
وأجعلك مع بعل ابن ايل
تعد السنين والشهور
عندما يعود البعل الىالحياة الربيع
يحتفل الناس بعيده
يسقونه ويزغردون
ويغنون الأغاني العذبة عليه،
كما، يشيدون به،
وكذلك سأجعل -أقهت- البطل يعيش.
ولكن أقهت يرفض اعطاء -عناة- القوس، فتقتله بواسطة زعيم الأشرار - وطفان- إلا أنها عادت ولامت نفسها، لأن المزروعات جفت، وانحبس المطر، وحل القحط والجفاف، لأن نفسا بريئة قد قتلت.
وأما أخت أقهت فوغة، فقد شكت الأمر لأبيها، عندما رأت البيدر يجف، والغلة تخسف ، ويحوم سرب من النسور والطيور الجارحة فوق بيت أبيها، فقد بكت من قبلها، وذرفت الدمع من الكبد,.
وعندها بكى القاضي -دانييل- وقال:
,, مطرا أيتها الغيوم، أمطري بالطل,.
لكن البعل -رمز البرق والرعد- وراكب السحب، حبس الغيوم سبع سنوات، بلا طل، بلا مطر، بلا اضطراب أمواج البحر.
فيصرخ دانييل بابنته فوغة، داعيا اياها لتنتقم لمقتل أخيها، حتى تهدأ روحه، وخاطبها قائلا:
اسمعي يا فوغة- حاملة الماء على الكتف
منزلة الطل على الشعير
العرافة بمدار الكوكب,.
ولكن التشويه يمحو بعض الأسطر من هذه الأسطورة، ونفترض ان النهاية ستكون على الشكل التالي:
في الأسطر الضائعة، تبدأ محاولة فوغة للانتقام من قاتل أخيها، فتصل الى مكان الأشرار، وتنتقم من زعيمهم -وطفان- الذي يعترف بقتله ل- أقهت- وبعد ان تثأر فوغة لأخيها، ترتاح روحه، ويعود الخصب الى الأرض بعد سنوات سبع عجاف.
ويظهر هنا بوضوح، ان الخصب لن يعود إلا بعودة أقهت، أو على الأقل رمزيا، بعد الانتقام من قاتله، والعثور على القوس، ويمكننا ان نفترض ان الرواية قد انتهت بعودة أقهت بعد ان وجد القوس، وبمصالحة مع -عناة- رمز الصيد.
لكن الأجمل في هذه الأسطورة، هو حزن -دانييل- على ولده -أقهت-
ووصف هذا الحزن, من شاعر أوغاريتي حساس، عندما يطوف -دانييل- حقله، فيرى النبات الضار، بينما السنابل لا تنمو، فيقول:
كيف ينبت البصقل، وتجف السنابل
سنبلة باكية، سنبلة يافعة يابسة
أقبل السنبلة، استنشقها
تزهو بالقحط السنبلة
ستجمعك يد أقهت القوي
ستضعك في وسط البيدر,.
وفي ذلك ما يرمز الى ان الخصب لن يعود الى الأرض إلا بعودة -أقهت-.
ويمكن اعتبار صراع أقهت مع عناة، وقتلها له، ومن ثم مصالحته، ما يقصد به الموت، وعودة الحياة,.
وهما عنصران يتضحان بعودة أقهت بعد ان وجد القوس، ومصالحته مع عناة، كما سبق في النهاية المفترضة لهذه الأسطورة.
أسطورة كارت
كان الملك -كارت- يهمل أهله ورعاياه، ويرعاه -إيل- ويزوجه من أجمل بنات الأرض، حيث يبارك زواجه، لكن -كارت- لا يحفظ العهد، ويستبد بالشعب، لذلك عندما يصبح على فراش المرض، ولا يستطيع بعد القيام بواجباته، يطلب ابنه منه ان يتخلى عن العرش، إذ ورد في القصيدة الأوغاريتية قوله:
اسمع لي يا كارت,.
أثقلت يديك بالأغلال
ولم تحقق حقوق الأرامل
لم تساعد اليتامى
لم تنتقم من الذين داسوا على الضعفاء أمامك
لم تطعم الأيتام.
أدرت ظهرك للأرامل
لازمك فراش المرض كالتوأم
تناول عن الملك
سأملك أنا
وأجلس على عرشك,.
ولنتابع القصيدة الأوغاريتية الجميلة، إذ تدعو ابنة كارت من أجل شفاء والدها، فتقول- والكلام موجه الى أخيها الأصغر-
أسكب زيتا
العيون,.
الأرض والسماء
الغلال,,
أشجار الأرض
فلتعط أيها النبع الماء للزرع
رحمة للحنطة في الحقول
دواءً على التلال
وعطرا للجبال
الملاحم والأساطير في وجهة نظر الباحثين
وأخيرا,, لقد تطرق الكثير من الباحثين، والمهتمين، الى دراسة ملاحم وأساطير أوغاريت، اذ يلخص شيغمان هذه الملاحم والأساطير بقوله:
انها تعد من وجهة نظر المجتمع المنتشرة فيه، معارف عن العملية العميقة التي تحدث في الطبيعة، ولا تدركها المراقبة السطحية.
وكذلك يرى أنيس فريحة في ملحمة دورة بعل:
ان هذه الملحمة إنما هي الى جانب هذا تمثيلية فصلية، تفسر لنا بطريقة شعرية، رتابة الطبيعة في تعاقب فصولها، وفي تعاقب دورة الحياة والموت .
|
|
|