الدنيا سوق محلِّي للدول رضا محمد لاري |
يتزايد الخوف عند الدول من اقتراب تطبيق اتفاقيات الجات رفع الحواجز الجمركية بين الدول، وبدء الاخذ بالعولمة توحيد الأسواق الدولية حتى تكتسب معالم السوق، المحلية بعد ان يتحول العالم الى قرية صغيرة.
الجات المشروع بالاتفاقيات المبرمة بين الدول لا يختلف عن نبات القات المخدر المحرم تعاطيه دولياً، ووجه الشبه بينهما ان اتفاقيات الجات تسطل الدول وتجعلها تفقد وعيها، فلا تعي ما يصدر منها من تصرفات اقتصادية تنفعها او تضرها، بينما نبات القات يسطل الانسان ويفقده وعيه فلا يعي ما يصدر عنه من تصرفات انسانية ترفعه او تخفضه.
العولمة بتطلعاتها واهدافها التي تكتسب الشرعية من اتفاق الدول المبرم عليها لا تختلف عن الاستعمار غير المشروع بصورتيه: القديمة العسكرية والجديدة الاقتصادية لأن العولمة في شكلها الشرعي والاستعمار في صوره غير المشروعة يستهدفان اخضاع الضعفاء للأقوياء.
صاغت الدول القوية العولمة في قوالب نظامية جعلت منها موسى في الحلق ان أخرجتها جرح الزور وان بلعتها مزقت الأمعاء,, فالخروج عن العولمة يفقد الخارج عنها المشاركة في الحياة، والدخول في العولمة يفقد الداخل فيها استقلاليته في الحياة.
بهذا القول نعارض استاذنا الدكتور سعيد النجار وهو من الاقتصاديين العرب المتميزين ويقود اليوم التيار المنادي بالجات والعولمة على اعتبارهما مسالك دولية تساعد الانسان الفقير في العالم على اشباع كل حاجاته من السلع والخدمات في ظل المنافسة القوية بين الدول التي تسعى الى طرح السلع الاكثر جودة والارخص سعراً في الاسواق، وكذلك الخدمات الأكثر تخصصاً التي تنفع الناس من كل الخدمات التي يحتاجون اليها.
سبب هذه المعارضة مع استاذنا الدكتور سعيد النجار نظرتنا الى الجات والعولمة من مساقط رؤية مختلفة تجعلنا نرى انهيار القدرة الانتاجية للمصانع في الدول المتخلفة وتحولها الى مجرد اسواق استهلاكية لما تنتجه مصانع الدول المتقدمة من سلع وما توفره نفس هذه الدول من خدمات بالجودة العالية والسعر الرخيص لهما.
لا يقتصر الخوف من الجات والعولمة على الدول المتخلفة التي ستطرد من انتاج السلع والخدمات وانما يمتد الخوف الى الدول المتقدمة من انواع معينة من السلع تتخصص فيها الدول المتخلفة والنامية مما جعلها تخرج زيت البترول الخام من لعبة الجات والعولمة لتغلق الباب في وجه الدول المتميزة بإنتاجها عند اسعار رخيصة وجودة عالية تفوق كثيراً ما تنتجه الدول المتقدمة من زيت البترول الخام، حتى يؤدي رفع سياح الجات والعولمة عن زيت البترول الخام الى استمرارها في الانتاج لإشباع حاجة اسواقها الداخلية وفرض الضرائب العالية على زيت البترول الخام حتى تتمكن من منافسته داخل السوق الدولي دون ان تؤثر سماته المحلية على تجارة زيت البترول الخام.
ولا يقف خوف الدول المتقدمة عند حدود تجارة البترول الذي اخرجته من تحت مظلة الجات والعولمة، وإنما شمل خوف هذه الدول الصناعات المتميزة عند غيرها من الدول فأخذت تسعى الى احتوائها داخل بنيانها الاقتصادي من خلال تقديم تسهيلات استثمارية كبيرة واعفاءات ضريبية مجدية وطويلة لاستقطابها إليها حتى تشاركها في ما تنتج وتنعم بميزة الجودة العالية والسعر الرخيص.
قدمت الولايات المتحدة الامريكية تسهيلات مالية كبيرة واعفاءات ضريبية طويلة بسخاء واضح لشركة مرسيدس بنز الألمانية وصلت في مجموعها الى مبلغ ستمائة مليون دولار امريكي حتى تقيم مصنعاً لها على ارض ممنوحة لها في ولاية الاباما.
وقدمت الولايات المتحدة الامريكية أيضاً تسهيلات مالية كبيرة واعفاءات ضريبية طويلة لشركة بناء سفن نروجية اغرتها على اقامة مصنع لبناء السفن في ولاية فلادليفيا.
وحصلت سويسرا المتخصصة في صناعة الأدوية والساعات على تسهيلات مالية كبيرة واعفاءات ضريبية طويلة حتى تقيم العديد من مصانع الأدوية والساعات في العديد من الولايات المختلفة الامريكية, هذا الاتجاه الامريكي في تقديم التسهيلات المالية الكبيرة والاعفاءات الضريبية الطويلة الراميتين الى فتح السوق الامريكية للاستثمارات الاجنبية فيه لتحصل امريكا على قدرات انتاجية جديدة ومتميزة تساعدها عند مراحل تطبيق الجات والعولمة من توسعة نطاق سيطرتها على الاسواق العالمية بعد تحويلها الى سوق محلي دولي,.
هذا الانفتاح الامريكي الواسع على العالم في نهاية القرن العشرين، الذي قابله التقوقع بالعزلة الامريكية عن العالم في بداية القرن العشرين قد دفع جامعة هارفرد في بوسطن الى دراسة هذه الظاهرة الاستثمارية وتوصلت في تقريرها إلى ان الحكومة الفيدرالية الامريكية تقوم بإغراء رؤوس الأموال الاجنبية للاستثمار فيها لتحقق بذلك نتائج عديدة منها التفوق بالانتاج على غيرها من الدول باستغلال قدرات غيرها لخدمة مصالحها وتوفير فرص عمل من خلال مراكز التدريب للتغلب على البطالة بين الشباب.
وتوصل التقرير المقدم من جامعة هارفرد الى منافسة الولايات المتحدة الامريكية بعضها لبعض تحت المظلة الاستثمارية التي تفرضها الحكومة الفيدرالية فأخذت كل ولاية تقدم التسهيلات المالية والاعفاء الضريبي بشكل تنافسي حتى تستقطب دون غيرها رأس المال الأجنبي الوافد الى الولايات المتحدة الامريكية, هذه السياسة التنافسية بين الولايات الامريكية المختلفة جعلت رأس المال الوطني الامريكي يفكر بصورة جدية في نقل مركز انتاجه الى ولاية اخرى حتى يستفيد من التسهيلات المالية الكبيرة والاعفاء الضريبي الطويل في داخل الولاية التي تكون اكثر سخاء من غيرها.
في عالمنا الثالث نجد مصر تشعر بخطورة الجات والعولمة ففتحت السوق المصري للاستثمارات الاجنبية بتقديم التسهيلات المالية الواسعة والاعفاءات الضريبية الطويلة واستطاعت استقطاب رؤوس اموال اجنبية كبيرة للعمل بالسوق المصري في مختلف المجالات وادت هذه السياسة الاقتصادية المصرية الى قيام الطفرة في داخل مصر على الرغم من الكساد السائد في مختلف انحاء العالم الذي يتوقع معه ان تكون مصر قادرة على مواجهة مغبة الجات والعولمة عند مراحل تطبيقهما لانها ستمتلك القدرة على انتاج السلع الجيدة ذات الاسعار الرخيصة بفضل رأس المال المستثمر فيها الذي يجلب معه تقنيات الانتاج على اعلى المستويات بتكلفة اكثر رخصاً عن غيرها بسبب تدني اسعار العمالة النسبي فيها عن غيرها.
لا نجافي الحقيقة لو قلنا بأن مصر بهذه السياسة الاقتصادية المنفتحة على العالم قد حققت بجانب الانتاج المتميز والرخيص التغلب كثيرا على ظاهرة البطالة فيها وربما تؤدي في مراحل لاحقة الى التغلب على البطالة المقنعة المتفشية في دواوين الحكومة وذلك بأيجاد فرص عمل لموظفي الحكومة بالقطاع الخاص اكثر اغراء لهم من الراتب الذي يحصلون عليه الذي يزيد عن رواتبهم الحالية تحت المظلة الحكومية.
دعوة معالي الشيخ احمد زكي يماني استاذ كرسي الشريعة الاسلامية في جامعة هارفرد الى فتح الباب امام شركات البترول الكبرى الراغبة في الاستثمار داخل بلادنا في مجال الانتاج البترولي في كل مراحله ابتداء من التنقيب عنه وانتهاء بتصنيعه في مصانعنا المخصصة بانتاج البتروكيماويات، دعوة مخلصة لانها تستهدف كسر الحظر المفروض على البترول من الدخول تحت مظلة الجات والعولمة لان الانتاج بأرقى التقنيات المتاحة التي توفرها تلك الشركات البترولية ستفرض تنافسها بالقوة بالسوق المحلي الدولي تحت مظلة الجات والعولمة.
ولا يختلف احد في ان فتح مجالات لاستثمار الاموال الاجنبية تحت مظلة الشركات الكبرى البترولية سيقدم فرص عمل واسعة للشباب السعودي الذي يكتسب الخبرة الواسعة من خلال التدريب على الصناعة البترولية.
اريد ان اقول ان الدول المختلفة في مرحلة الجات والعولمة ستركز على افضل ما عندها في العمليات الانتاجية لتتفوق بها على غيرها من دول العالم, والبترول هو افضل ما عندنا ونستطيع بفتح الباب للاستثمارات الاجنبية فيه ان نصل الى تقديمه للعالم بصورة افضل من غيره خصوصاً لو وظفت اجزاء من هذه الاموال الاجنبية المستثمرة عندنا في تدريب شباب بلادنا على الصناعة البترولية, وبالتدريب والممارسة العملية نصل بهؤلاء الشباب الى قدرات هائلة في الانتاج خصوصاً بعد ان يصبحوا خبراء في البترول ومراحل تصنيفه وتسويقه المختلفة.
|
|
|