تشيلر وماكبرايد ودانييل بيل وغيرهم من المشتغلين بالفكر والهوية الوطنية في المجتمعات النامية، كان العالم كله مشغولا بخلق ضوابط وميكانيزمات مؤسسية
اسمية لحماية الدول الضعيفة من سطوة الغرب الفني المتقدم اتصاليا,, ونافحت العديد من الأصوات الوطنية عن قضايا السيادة الثقافية بكل أبعادها ضمن تخوم
دولها الطبيعية، على الأقل بعيدا عن سطوة الحضور الطاغي للنموذج الحياتي لدول الغرب المتقدمة صناعيا ومؤسسيا، وبهدف انجاز البرامج التنموية والاجتماعية
بشكل مرحلي متدرج ومحرر من الأمراض المدنية المتوقعة الى حد بعيد,, وجاء ترحيل اساليب الحياة في المدنية الغربية عبر وسائط الاتصال بصناعة اعلامية مثيرة
بمثابة الولادة المبكرة لجنين غير مكتمل النمو في أكثرية دول الجنوب، والتي وجدت نفسها كحكومات تلهث وراء التحديث والعصرنة بأقصر الطرق وأسرعها وخاصة في
الابعاد المادية والشكلانية للمشاريع الاجتماعية المنوط بها انجازها لشعوبها,, وتنامت طموحات الافراد والحكومات بشكل مفزع ومقلق على السواء في ظل واقع
مليء بالاحباطات وغير قابل للحلول والمعالجات التي تطرح من قبل وسطاء وسماسرة وخبراء أجانب يجنون من المكاسب لهم ولحكوماتهم ومؤسساتهم ما يفوق مئات المرات
ما تحصل عليه تلك البيئات المتخلفة وشعوبها من خبرات ومكاسب,, واضحت المصالح الوطنية للعديد من دول العالم الثالث كما يعرف مساحة رهانات مشاعة فيما بين
صنّاع القرار الوطنيين وممثلي مؤسسات الغرب الباحثة عن مصالح لتشغيل مصانعها وعمالتها وتكبيل هذه الدول المتأخرة ببرامج وقروض اقتصادية تتجاوز فوائدها
الاقساط المتوقع سدادها بدرجة أو بأخرى، هذا عدا عدم جدواها اجتماعيا ومؤسسيا على المدى البعيد,, اليوم تؤكد التقارير العالمية لحركة النمو والاقتصاد
وصناعة المؤسسات في العالم تنامي حالات الفساد والرهانات القذرة من جانب دول الغرب الغنية واعوانها من المتنفذين من صنّاع القرار في العديد من دول الجنوب
الفقيرة,, اليوم لم تعد أبعاد الهيمنة الاتصالية والمعلوماتية قاصرة على مفهومات الثقافة والسيادة الوطنية، وانما تجاوزتها لتصدير الأمراض المدنية في
بيئات غير ناضجة مؤسسيا واقتصاديا وانتاجيا,, ومن هذه الأمراض الفساد والرشاوى التي تصبح معها الشعوب مرتهنة لحفنة من الانتهازيين من أبنائها واصحاب
المصالح والرهانات من خارج الحدود، وبدرجة تجعل هذه الشعوب حبيسة علل الجهل والأمية والفقر لأطول فترة ممكنة,, دول كالدنمارك والسويد والتي تمكنت من انجاز
مشاريعها المدنية بشكل مرحلي وفق صناعة مؤسسية ووعي اجتماعي راسخ عبر نظم الاعلام والتربية، جاءت على رأس قائمة الدول النظيفة، والمحررة من أمراض الفساد
المدني لأنها تمكنت من خلق واقع اجتماعي متوازن بين امكاناتها وطموحات افرادها وأدوار مؤسساتها الى حد كبير,, أما دول كنيجيريا وكولومبيا ومعظم أمريكا
اللاتينية وروسيا فجاءت في قائمة الدول المرتشية والتي تعاني من فساد مؤسسي واجتماعي,, وقد يكون النموذج الروسي اكثر حضورا اليوم بعد انفتاحه على ليبرالية
مؤسسات الغرب المتقدم الباحثة عن تمدداتها الرأسمالية بأي ثمن في المجتمع الروسي,,
السؤال هو، هل في ظل عولمة الحياة المدنية القريبة والترويج علنا لحضورها في كوكب الأرض من الممكن ايجاد حلول لأوجاع تسببت فيها عجلة التحديث الغربية في
بيئات مفرغة من الوعي والصناعة المدنية؟! لا اعتقد، واغلب الظن ان الغرب نفسه سيكون ضحية للأوضاع التي استزرعها في وقت من الأوقات، ولا بد له من دفع نسبة
من فاتورة الخروقات المدنية هذه إن عاجلا أو آجلا!!,
عبدالله الطويرقي