وللأقوياء احلامهم
اما الهنود الحمر فلهم الكابوس,
ولمارتن لوثر كنج الموت,
وللشرقيين الوهم, /ص36),،
في كتابه (رحلة الى جمهورية النظرية) يقدم لنا الدكتور (عبدالله الغذامي) مقاربة متغيرة لصورتي امريكا: الواقعية العينية، والذهنية الماكثة في ذاكرة
المتصور لها, وما بين الصورتين تاتي مقالات (الغذامي) كاشفة عن وجوه امريكا المتعددة والمتعرية تحت عناوين ملفتة اشبه ما تكون بالمرايا المتعاكسة التي
تروي حكاية الارض والظلم وعلاقة غرب الغرب بالشرق اليتيم حيث تعددت الاسماء والموت واحد,, الموت الذي يمنحه (النظام العالمي الجديد),, او تكون امريكا هي
بجماليون الحضارة البشرية، هل هي الحلم الذي تحقق فتحول من خيال اسطوري الى واقع بشري؟ يتساءل (الغذامي) ويجيب: لم تستطع الولايات المتحدة تحويل علاقات
القوة/ الضعف الى وجه انساني يتفق مع منجزاتها العظمى في الداخل, وهي لم تزل تقدم سياستين متناقضتين احداهما داخلية ديمقراطية، والاخرى خارجية دكتاتورية,
وبينهما وجوه اخرى ذات اقنعة متنوعة, حيث القناع الاوروبي غير الآخر العربي والافريقي, وتختلف هذه مع وجوه اخرى منها ماهو للصين، وماهو لكوريا، وماهو
لليابان، على اختلاف عظيم وتنوع يجعل الخارج الامريكي خارجا دراميا تنعدم فيه شروط النص الملحمي وتحل نصوص مختلفة متضاربة ومتضادة ومتقاطعة, ويكون نصا
عشوائيا آخر للنص الملحمي الداخلي,/ ص25,
اذن، هل يمكننا القول مع الشاعر الالماني (بريخت): افضل شيء في امريكا هو اننا نفهمها؟,
،(امريكا كتاب مفتوح قابل للفهم ولسوء الفهم، مثل اي نص ابداعي ينطوي على المجاز وعلى الضمني والمضمر، وما اكثرهم اولئك الذين حاولوا قراءة هذا النص
الامريكي العجيب, وكم وثقوا بصدق تصوراتهم وصحة تاويلاتهم، منذ قراءة ماوتسي تونغ المشهورة ونبوءته بتحطيم العملاق من الداخل, ولكن العملاق لم يزل يزداد
عملقة وجبروتا, انه مثل كتاب مسموم يقتل قارئه ولايموت هو, ص19),،
رغم ذلك، لماذا نستمر في قراءة هذا الكتاب المسموم؟,
يوضح (الغذامي) ان امريكا (جاءت في آخر التاريخ وفي آخر معاجم اللغة والحضارات، فصارت اغض الامم واشب الامبراطوريات, مثلما جاء مكانها آخر الاماكن، وهو
موقع جغرافي اعطاها فرصة عالمية لان تكون آخر من ينام من البشر, وهذا لايعني انها قد صارت الابن البار والبنت الصالحة التي لاتقصر في حقوق والديها، بل
انها كيان بشرى مثل سواه من البشر، ولكل امة من الامم جنونها تماما مثل الافراد ولها هوسها ووساوسها ومراهقتها, غير ان جنون امريكا ومراهقتها يأخذان صورة
مختلفة ووجها مختلفا، له من القوة والسلطان ما يجعله وجها عالميا ولغة عالمية, ولذا فكلما جنت امريكا جن معها العالم وكانها بذلك خاتمة لرواية من رويات
اجاثا كريستي حيث تعدل النهاية كل احداث الرواية وتجرها وراءها وان تقدمت عليها, هذه هي امريكا خاتمة الرواية العالمية وآخر المواقع الجغرافية، وحينما
تكون هي غربا يكون العالم كله شرقا لها،وكله يصب فيها وينحدر نحوها مثل انحدار الشمس الابدي نحو الغرب, لذا تكون قراءتنا لأمريكا هي قراءة لنا من حيث اننا
نرى انفسنا في هذا الآخر ونقيس ذاتنا من خلال التعرف على آخر ليس لنا ولكنه فينا ومن حولنا /ص8),،
فكيف قارب (الغذامي) قراءته لوجه امريكا؟,
تتثاقف ابعاد الكتاب متضمنة ما يفيد مقصديتها من وقائع رحلة قام بها الغذامي الى امريكا، ومن تضمينات مختلفة وظفها المؤلف بما يتناسب مع رؤاه الكاشفة
العابرة من خلال ذاكرته الى ذاكرة المقالات الستة والثلاثين، مثل: ماحكاه القزويني في آثاره عن (دير الجودي)، وما جاء على لسان احد شخوص امبرتو ايكو في
روايته (اسم الوردة)، وبحكاية من حكايا الف ليلة وليلة، و (طوق الحمامة) لابن حزم و,, يشابك الغذامي بين هذه الابعاد منتجا رحلة اخرى بين القراءة
والاستنطاق، حيث يجعل من هذه الشبكة بؤرة تحاورية تسقط احتمالاتها بين الوهم والحلم، وتنسج الفروق بين الشرق والغرب,, كيف؟,
ان ذلك يظهر على أجلِّه في العنوانين (الحلم الامريكي) و (السيدة امريكا) حيث نلمح مقارنة صريحة بين :
،1-امريكا والاحتلال الصهيوني:
،(ان الذاكرة الامريكية تنقسم في داخلها الى ذاكرتين متغايرتين, واحدة مطمورة منسية، او في الاقل هناك رغبة حقيقية في تناسيها والغائها, وهي ذاكرة الماضي
القديم والجذور الاولى والتاريخ السابق للمهاجرين، حيث الشرق وشرق الشرق والدنيا القديمة، مع الفقر والحرمان والاضطهاد, حيث الماضي الذي هربت منه الذاكرة
ولاتريد عودته ولاتريد تذكره- وهذا حال اشتات الصهاينة - وفي مقابل هذا المنسي والهروب منه تاتي ذاكرة اخرى حية وحضارة هي ذاكرة الارض الجديدة، الارض
الحالمة ، ارض الرخاء والنماء, وفيما بين هاتين الذاكرتين ياتي (الحلم الامريكي) ليمثل لحظات الهروب والانتقال من ذاكرة الى ذاكرة, من القديم الى الجديد,
من الحرمان الى الوعد, ص0/34,
،2-الشرق يستر والغرب يكشف:
،(هذا هو الفرق بين الخطيب الامريكي والخطيب الشرقي، يتحدث الاول عن الحلم مفقودا او موعودا, اما الثاني فليس لديه الا ان يتحدث عن توفيق الله له ولأجهزته
حيث وفقهم بالكشف عن (مؤامرة) او (مؤامرات) اجنبية كانت ستقوض امن البلاد وتوزع الخبز على الرعاع,
ص/35 سيدة هي امريكا، تسبها فتضحك وتجعلك تضحك معها، بل انها تعطيك الاقلام والورق وضوء المصباح وتدعوك للكتابة وتسطير مشاعرك على جسدها وعلى جبينها, كل
ذلك لكي تشعرك انها ليست شرقية, ماذا لو كانت امريكا شرقية؟, ان للشرق حكاياته وسحره, وله ايضا طرائقة الخاصة في التعبير والاتصال, ومن هذه الطرائق مارواه
امبرتوايكو في حكاية عن ترجمة روايته (اسم الوردة) الى احدى اللغات الشرقية - قبل مجيء البيروسترويكا- حيث اصطدم المترجم بجملة صغيرة في بداية الرواية
تحكي عن مدينة (براغ) وتشيراستطرادا الى الغزو الروسي لتشيكوسلوفاكيا, وهذا احدث ارتباكا للمرتجم الذي اتصل بايكو يطلب اذنه في حذف هذه الإشارة، اذ يصعب
ذكر هذا الغزو, ولقد ردايكو مازحا: اني احب براغ وكذا دبلن, ويمكنك ان تضع الاخيرة بدلا من الاولى, فقال المترجم: ولكن الروس لم يجتاحوا مدينة دبلن، فرد
عليه ايكو: هذه ليست غلطتي, ولكن غلطة ايكو هي انه ذكر حادثة تاريخية فاخترق الصمت الشرقي,
هذا الصمت الذي صار اغلى ممتلكات الشرقيين يعالجون به ضمائرهم، ويسترون به وجه تاريخهم وجاء ايكو ليكشف المستور فصارت خطيئته التي لايقوى المترجم على
مداراتها, الشرق يستر,, والغرب يكشف,, خطابان مختلفان, خطاب الصمت والنسيان، وخطاب الكشف والتذكار، والذي يكتب لابد ان يعي شروط اللعبتين، فاذا ماكتبت عن
الشرق فلا بد ان تضع حسابات لنفسك ولقلمك وتتأدب بآداب الشرق,
فان لم تفعل فانت رجعي او خائن او عميل, اما ان كتبت عن الغرب او امريكا خاصة، واكثرت من النقد والتعرية والكشف فانت عند الشرقيين كاتب طليعي تقدمي مستنير
تحارب الاضطهاد والامبريالية, ومن هنا فان اجمل مافي امريكا اننا نقول عنها مانقول ولانخاف، وهذا هو ما اسال اقلام العالم حبرا وكتابة عن امريكا، وجعل
امريكا مادة للقراءة الحرة والمفتوحة، يجرب فيها الكاتب قلمه ومهاراته الذهنية، وهو مصيب في كل ما يقول, ولكن ماهو موقف امريكا من كل ذلك؟ ان امريكا ليست
مخطوطا صامتا تتداوله الايدي من دون حول ولاطول, انها كتاب حي له مائة لسان بعدد الامم والشعوب واللغات التي عبرت البحار واستوطنت هناك في الغرب البعيد,
وكل لسان له من الفصاحة مايثير حيرة الشرقيين ويتحدى كل فصاحتهم, ومن فصاحة هذا اللسان قدرته على ابتكار المصطلحات البديعة مثل مصطلع النظام العالمي
الجديد، ومثل مصطلح الحرية والديمقراطية لكل الشعوب, هذه الرقية الامريكية لها دوران متكاملان، اولهما انها طعم للشرقيين يتغذون عليه ويشغلون به عقولهم،
والثاني دور داخلي يجعل الانسان الامريكي يشعر بالراحة والاطمئنان في ضميره الانساني حيث يرى حكومته تدافع عن حقوق الشعوب الاخرى وتمنحهم الحرية
والديمقراطية/ من العنوان السابع - سيدة هي امريكا),،
لكن، هل لامريكا ضمير؟,
يجيبنا العنوان (/35نبشركم بالحضارة): لاتكتمل قراءة امريكا الا بالوقوف على اهم واخطر فصل من فصول الكتاب الامريكي، وهو فصل الهنود الحمر, هذا الفصل يمثل
الذاكرة والاصل والمبتدأ لكل ماهو امريكي، ولكل ماهو حضاري او اخلاقي في التجربة الامريكية وفي سجلات الرجل الابيض هذا الذي جاء مبشرا بالحضارة البيضاء،
وبادر الى تقديم هداياه ووصاياه للسكان المحليين، وكانت هذه الهدايا بمثابة (عشر بلايا) كما يقول تودوروف (فتح امريكا ص 148), اولها الجدري وآخرها
العبودية، هذا هو الثمن الذي دفعه الرجل الابيض مقابل اخذه للارض الهندية الحمراء، ومقابل امتلاكه للجسد الاحمر والوجه الاخضر، حتى ضاقت الارض باهلها في
حين اتسعت للمهاجرين من كافة اصقاع الغرب الاوروبي,, درس في الحضارة وفي الاخلاق لايقوى عليه سوى رجل ابيض / ص156),،
نتسائل هل امريكا خطيئة كولو مبوس ام خطيئة (ضميرها) ام خطيئة الشرق؟,
يبدو من اول وهلة ان كولومبوس لم يجد ارضا بكرا فحسب، ولكنه عثر على شعب بكر ايضا وكانت الارض من نصيب البلاط الاسباني المجيد، وكذلك هي الحال مع الشعب
الذي صار غنيمة سهلة بيد الفاتح الابيض, ص /156 وتعنُّ لاحدهم فكرة بيضاء طريفة ويرغب في تجريب سيفه، وتعم الفكرة سائر الجنود فيشرعون في تمزيق احشاء
الرجال والنساء من الهنود ويقطعون اعضاءهم ولايسلم من ذلك احد حتى الاطفال والشيوخ الذين يتساقطون قطعا قطعا من اجل تجريب السيوف الناصعة في بياضها وفي
تحضرها, هنا يعود مصطلح (المتوحش) ومصطلح (المتحضر) ليكشف سلطان اللغة على البشر، وعلى قدرة العبارات على تشكيل العقل الانساني وتوجيه خياراته، ومادام
الهنود متوحشين فان اجسادهم واعراضهم وارضهم تصبح حقا طبيعيا للرجل المتحضر صاحب السيف الابيض، وهذه هي حقوق الحضارة مقابل المصير المحتوم للوحشي, هكذا هي
البشارة بالحضارة، هذه اللغة التي لم يتعود عليها الهنود الحمر الذين جربوا كل مفردات معجمهم اللغوي الفطري، ومن ذلك ان زعيم قبائل الازتيك في المكسيك
حاول مخاطبة الاسبان باللغة التي ظن انها تردهم بسلام، فارسل اليهم هدايا سخية من الذهب ومن النساء لكي يرضوا بهذه النعم عن محاربة الهنود واحتلال ديارهم
،(تودوروف ص 96), ولكن هذه الهدايا زادت الرجال البيض اغراء واشعلت رغبات الطمع في نفوسهم,
ومن هنا فان كل موقف سلمي يبدو من الهنود يرد عليه الاسبان بمزيد من العدوانية, ويظل التقسيم الاخلاقي قائما بين الثقافتين فهؤلاء البيض متحضرون واولئك
الهنود وحوش, والارض لن تكون لاصحابها ولكنها ستؤول الى الغازي الذي يظل متحضرا وذا رسالة, /ص 157 -158),،
عبر كتابه (رحلة الى جمهورية النظرية) يسرد الغذامي ذاكرة ثلاثين يوما بمفارقاتها المبتدئة منذ (1492) مرورا بمختلف وجوه امريكا اللاهثة الى المزيد من
الماء والجرائم والاراضي والهنود الحمر، هؤلاء الهنود الذين قابل منهم ثلاثة وظنهم كائنات سينمائية حيث تبدو (صورهم وكانهم قلوب لايغلفها جسد، اوربما
يكونون كلمات طارت من صفحة كتاب وتعلقت بالهواء، فهي تطير وتتحرك وتعبر، فتقترب من عينيك تارة وتهرب منك بعد ذلك لتعود مرة اخرى، وانت تسبح وراءها ببصرك
وتسال نفسك: هل هذه ذاكرتي طارت من راسي وصارت تلاعب نظراتي وتمتحن فهمي وادراكي؟) ولاينسى د, الغذامي (اللغة المنسية/ اريك فروم) فيستعير منها رمزا
،(الهرة البيضاء) مضيفا اليه (او امبراطورية اللغة/ وهو العنوان رقم 18 ) ليوصل القارىء الى قوة امريكا محللا سيميائية الرمز وسبب القوة الامريكية، لنقرا
ما اتى في الصفحة (87):(يروي اريك فروم في كتابه الجميل اللغة المنسية حلما لاحدى السيدات رات فيه هرة بيضاء وحولها مائة فارة، وكانت الفئران بعددها هذا
تقف خائفة ومرتعبة من هذه الهرة الوحيدة, ولقد انشغل ذهن السيدة بسؤال ظل يلح عليها وهو: ما الذي يجعل مائة فارة تخاف من هرة واحدة؟, من الممكن لهذا
السؤال ان يكون واحدا من ابرز علامات التاريخ حينما تسيطر قوة واحدة على مائة امة اخرى, وليس بغريب على التاريخ ولا على الثقافة ان يحدث هذا، ولكن الغريب
دائما هو ان تستنجد الضحية بالجزار, هنا تكون المائة فارة قد اسهمت في خلق الهرة البيضاء وفي تقويتها, وان كانت امريكا المعاصرة قد صارت -عندنا- بمثابة
امبراطورية لغوية، فلاشك ان ما يمثل العالم الآخر قد كان له -ومايزال- دور اساسي في خلق هذه الهرة البيضاء او الامبراطورية اللغوية),،
فالى متى ستظل امريكا تلك الهرة المبشرة بالحضارة؟ نتمنى الا تتحقق نبوءة محمود درويش في هذا المجال، اي، نتمنى قبل ان تحفر امريكا بئرا في الارض لتدفن
فيها الفضاء أن نكون قد دفناها خارج الارض,
اختتم قراءتي بمقطع من (أحد عشر كوكبا) اورده د, الغذامي مقدمة لفصله الخامس والثلاثين: نبشركم بالحضارة قال الغريب، وقال: أنا سيد الوقت جئت لكي ارث
الارض منكم فمروا امامي لأحصيكم جثة جثة فوق سطح البحيرة، ابشركم بالحضارة قال
لكم عالم ولنا عالم
يقول الغريب كلاما غريبا
ويحفر في الارض بئرا
ليدفن فيها السماء،
يقول الغريب كلاما غريبا,
،*رحلة الى جمهورية النظرية مقاربات لقراءة وجه امريكا الثقافي د,عبدالله محمد الغذامي ط2 (1998) صادر عن مركز الانماء الحضاري عدد الصفحات (172)*،
،