الشعر والحرب
،- الحرب احدى الفجائع الانسانية الكبرى وهي والحب وراء كثير من تراث الانسانية في الشعر، ألم تكن حرب طروادة بسبب قصة حب بين باريس ابن ملك طروادة وهيلين
زوجة ملك اليونان وقد صور الشعر العربي تجربة - الحرب - وقبحها وجسّد الشعراء أهوالها وحين نتأمل تجارب الشعراء الفرسان فإننا نعثر على هيكل متكامل القيم
التي تحكم المجتمعات البشرية وقد تفجعت الشاعرة العربية الخنساء على اخيها صخر حتى اننا لنعثر من خلال حزنها على نموذج للبطولة والصبر والجلد, تقول
الخنساء:
وان صخراً لوالينا وسيدنا
وان صخراً اذا نشتو لنحّار
وان صخراً لمقدام اذا ركبوا
وان صخراً اذا جاعوا لعقّار
وان صخراً لتأتمُّ الهداة به
كأنه علم في رأسه نار
جَلدٌ جميل المحيا كامل ورعٌ
وللحروب غداة الروع مسعار
حمّال ألوية هبّاط أوديةٍ
شهّاد أندية للجيش جرار
وتقول في قصيدة اخرى:
ياعين فابكي فتى محضا ضرائبه
صعبا مراقبه سهلا اذا ريدا
لا يأخذ الخسف في قوم فيغضبهم
ولاتراه اذا ما قام محدودا
ولايقوم الى ابن العم يشتمه
ولا يدب الى الجارات تخويدا
كأنما خلق الرحمن صورته
دينار عين يراه الناس منقودا
وتقول الخنساء:
تذكرت صخرا اذ تغنت حمامة
هتوف على غصن من الأيك تسجع
فظلت لها ابكي بدمع حزينة
وقلبي مما ذكّرتني موجع
تذكرني صخرا وقد حال دونه
صفيح واحجار وبيداء بلقع
أرى الدهر يرمي ما تطيش سهامه
وليس لمن قد غاله الدهر مرجع
فان كان صخر الجود اصبح ثاويا
فقد كان في الدنيا يضر وينفع
واذا تأملنا هذه الابيات وجدنا بطولة صخر في نظر اخته الخنساء تتسع لفضائل اخرى تتجاوز مجرد الشجاعة والقوة في ميدان القتال فهو الوالي، اي الراعي والسيد
الذي يعتمد عليه في الشدائد وحين يشتد بالناس البرد ويدخل الشتاء فيطلب الناس الطعام للدفء والعافية فان صخرا ينحر الذبائح ويطعم الجوعى وهو قائد تقتدي
وتهتدي به الاقوام في حلها وترحالها ثم صبور لا يجزع، جميل الوجه عفيف غير مبتذل مثير للحروب فهو شجاع مقدام يحمل الالوية كنابة عن القيادة والريادة وحامل
اللواء هو القائد الذي تلتف حوله القوات وهو ماهر في الحركة هباط اودية, وتشير الشاعرة الى الموهبة الاجتماعية عند صخر فهو شهاد اندية ثم تنتقل الى صفات
اخرى تميّز أخاها صخراً فترى انه اصيل الصفات لا يناله من يلتمس له عيوبا كما انه بسيط اذا عومل بمودة,, ليس ظالما يغضب اهله أو يشتمهم وهو شهم نبيل لا
يتسلل الى جاراته في غيبة الرجال ونحن نرى اللمسة النسائية في وصف الخنساء لشخصية صخر في هذا الالحاح على فكرة الجمال فهو:
جلد جميل المحيا كامل ورع
وللحروب غداة الروع مسعار
ثم تقول الخنساء عن جماله:
كأنما خلق الرحمن صورته
دينار عين يراه الناس منقودا
فهو اشبه بالدينار المصقول الذي اختير لصفائه واصالته ومن هنا فان تفجعها عليه يأتي منطقيا بعد كل ما ذكرته من صفاته, فان انتقلنا الى صورة فارس آخر هو
ابو فراس الحمداني وجدنا هذه الصورة قريبة من تلك الصور الشاملة التي تتغنى بالفارس باعتباره بطلا شهما كريما نبيلا عفّا قادرا راعيا لأهله حليما صبورا لا
يغضبهم, يقول ابو فراس يخاطب عاذلته وهي كما يناديها ابنة عمه,, يقول:
ولا تنكريني انني غير منكر
إذا زلّتِ الاقدام واستنزل النصر
واني لجرّار لكل كتيبة
معودة الا يخل بها النصر
وإني لنزّال بكل مخوفة
كثير الى نزالها النظر الشزر
فأظمأ حتى ترتوي البيض والقنا
واسغب حتى يشبع الذئب والنسر
ولا اصبح الحي الخلوف بغارة
ولا الجيش ما لم تأته قبلي النُّذرُ
ويارب دار لم تخفني منيعة
طلعت عليها بالردى انا والفجر
ان الشاعر يناشد ابنة عمه التي تعذله ويتصور انها تنكره وقد يكون هذا الحديث كله متوهما، فهو لشدة بلواه يبحث عن نجي صفيٍّ يفضي اليه بسره, هو يتوق الى ان
يفضي بذات نفسه الى احد من اهله الاقربين هؤلاء الاهل الذين كانوا وراء مصائبه كلها,
اذا خفت من اخوالي الروم خطة
تخوفت من اعمامي العرب اربعا
اذن فان ابنة عمه ربما لا تكون قد انكرته ولا عذلته ولكنه الحنين الى المشاركة هو ما دفع الشاعر الى افتراض العذل والإنكار ثم مناسبة لبسط احواله في
قصيدته انه يركز على فضائله حين يقول:
وساحبة الاذيال نحوي لقيتها
فلم يلقها جهم اللقاء ولا وعر
وهبت لها ما حازه الجيش كله
ورحت ولم يكشف لأثوابها ستر
ولا راح يطغيني بأثوابه الغنى
ولابات يثنيني عن الكرم الفقر
وما حاجتي بالمال أبغى وفوره
اذا لم افر عرضي فلا وفر الوفر
الشاعر يؤكد نبله حين يقول انه يهش في وجه المرأة الشريفة التي غدر بها الزمان فاقتحمت الجيوش منازل اهلها وسلبت هذه الجيوش كل ما حوته هذه المنازل، فحين
جاءت هذه الشريفة الى الشاعر فانه يهش في وجهها ويلين لها في القول والفعل بل ان شهامته تبلغ الذروة حين يقول انه يهب لها ما حازه الجيش من مغانم, انه ليس
أفّاقاً يهاجم من اجل المال، بل انه يحتقر هذا المال كله فالغنى لا يدفعه الى الطغيان والفقر لا يذله، ثم ما حاجته الى المال اذا أهدر ما هو اثمن منه وهو
العرض,
الشاعر إذن يعلي من شأن القيم الانسانية الكبرى وهي المروءة التي تدفعه الى معاملة هذه المرأة الكريمة الشريفة التي أهانها الدهر وهي الحفاظ على العرض
كذلك والشهامة والكبرياء ثم يصور الشاعر واقعة اسره فيقول:
اسرت وما صحبي بعزل لدى الوغى
ولا فرسي مهر ولا ربه غمر
ولكن إذا حم القضاء على امرىء
فليس له بر يقيه ولا بحر
وقال أصيحابي الفرار ام الردى
فقلت هما امران احلاهما مر
ولكنني امضي لما لا يعيبني
وحسبك من أمرين خيرهما الاسر
يقولون لي بعت السلامة بالردى
فقلت اما والله ما نالني خسر
وهل يتجافى عني الموت ساعة
إذا ما تجافى عني الاسر والضر
هو الموت فاختر ما علالك ذكره
فلم يمت الانسان ماحيي الذكر
ولا خير في دفع الردى بمذلة
كما ردها بوما بسوأته عمرو
الى ان يقول:
ونحن اناس لا توسط بيننا
لنا الصدر دون العالمين او القبر
إن جوهر هذه الابيات هو التركيز على الشرف في الحرب وهو يبرز اسره بالقضاء والقدر الى انه لا تقصير من جانبه بل انه حين خير بين الموت او الهرب لم يتردد
في اختيار الموت بل في اختيار ما لاعيب فيه وهكذا نرى ان صورة الحرب في الشعر لا تنفصل عن صورة المحارب، وان الحروب التي نشبت في التاريخ وعبر عنها
الشعراء وبعضهم ذاق مرارتها وعركتهم رحاها هي حروب عادلة أو حروب ظالمة,
بعضها حروب من أجل النهب والسلب وبعضها حروب من اجل العرض والارض وبعضها حروب لاستعراض الفتوة والقوة, ولقد كان الشعر دائما صوت الفضائل الانسانية
والداعي اليها,
محمد إبراهيم أبو سنة


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved