أيام العرق والطين
عبدالله نور
التفجير النووي الثاني في حياة الملك عبد العزيز
حكى بعض ثقات البحرين أن الإمام عبد الرحمن وقد ضاقت به الأرض في سباسب الدهناء، بعث بولده عبد العزيز إلى أمير البحرين الشيخ عيسى بن خليفة ليأذن له في
لجوء محارمه في البحرين ريثما تستقر به الأرض في قرار معلوم,
وكان أمير البحرين في ديوانه العام، والناس على اختلاف هيئاتهم، أمراء، ومشائخ، وأعيان، وأكابر، قد أخذوا أماكنهم، والأمير ينظر في أمورهم إذ دلف عبد
العزيز يفيض مثل البدر ونُورُه قُدَّامَه يَرتادُ له ويفسح الطريق فانجَفَل بعضهم وتعلقت به عيون بعضهم، وطاف عليهم طائف ترك الأمير ينصرف عن الأوراق فما
راعه إلا عبد العزيز وشعاع عينيه قد نسج فوق همته هيبته ففزع إليه الأمير واثباً من كرسيِّه واحتضنه بكل جوانحه وأفسح له ورفع مجلسه وفزع الناس إليه
ينظرون وقد هابوه ومالبثوا إلا قليلاً حتى غَصَّ المجلس بأمراء آل الخليفة جاؤوا للسلام والإكرام ثم ما لبثوا إلا سويعة فدلف إلى المجلس راكان بن حثلين
شيخ العجمان المشهور فسلّم وسلّموا عليه وأدار طرفه لينظر في مكان شاغر يُوَجَّه أو يَتَوجّه إليه فلم يجد ما يليق برتبته فأجال النظر كرة أخرى وزاغ بصره
على أكثرهم وقد زاغت أبصارهم مثله وليس فيهم من يرى نفسه إلا أهلاً للمكان الذي هو فيه فَتَحَيَّر ثم تَغَيَّظ فلا هو يرضى بالقَهقَرى ولا هو يرضى
بالخَوجَلى وتصاغرت إليه نفسه وطَفَح غَيظُه حتى ملأ سَحَرَه ولم يبق إلا أن يَخلع لسانه وقد ملأ جَوبَةَ فمه ويضرب به هامة أقرب الجالسين، وحيث بلغ به
العُسر أقصاه حتى يخلع جاءه اليُسر من عبد العزيز يناديه بصوت مثل صوت الغَضَاة إذا تَلَهَّبَت بالنيران مدفوعة من ريح الجنوب، فأقبل إليه وأبصره قد أفسح
له مكاناً في كُرسيِّه وهو يُربِّتُ بيمناه على الكرسي وكأنه يعطيه كرسي إمارة ثانية أعظم من إمارته على العجمان فلبّى وجلس ثم أطرق إلى الأرض يسأل نفسه
عن صورة هذا الفتى الذي لم يره إلا هذه المرة فأنكرته نفسه وإن لم تنكره مراياه وهاب أن يسأله عن اسمه ولم يكن هياباً فتطلّع إلى أمير البحرين الذي كان
بدوره يتطلّع إليه فتحرك من جلسته واستوى مثل صقر يهم أن يطير ثم انتفض وطار من الفرح وهو يلعلع بالثناء حتى أوشك أن يخلع ولكنه تجلَّد وأصاخ سمعه لأمير
البحرين الذي كان لا يقل عن ابن حثلين ابتهاجاً وغبطة, كان مبتهجا بقدوم عبد العزيز، وكان مغتبطا مثل ابن حثلين بصنيع عبد العزيز حين أفسح لابن حثلين ورفع
مقامه وأنقذ مروءة أمير البحرين,
كان عبد العزيز فتى في ميعة صباه في الرابعة عشرة من عمره، وكان صنيعه لعمرو أبيك صنيع ملك من أكابر الملوك الذين آتاهم الله الملك والحكمة وسخّر لهم من
انفسهم مواهب لا تُؤتى إلا مرة واحدة كل قرن من الزمان، أو كل ألف سنة من السنين والاعوام إن فتى في مثل حاله جاء ليطلب الإذن في لجوء عائلته، وحسبه أنه
مَهيض الجناح وحسبه ان يبتئس، وحسبه أن يكون ضيفا عزيزاً يقبل بالذي يجود به صاحب الدار فإذا هو يتصرف تصرف الملوك ولم تعد طلبته حاجة، بل انقلبت إلى أمر
بروح واثقة آمرة، وكان لا يرجو سوى ان يناله معروف أمير البحرين، فإذا هو قد تفضل على أمير البحرين بمعروف اكبر من معروفه، بل تفضل على شيخ العجمان وعلى
كل العجمان كما كان آباؤه وأجداده يتفضلون وفوق ما كانوا يتفضلون، وإن هذا لهو العجب، وإن هذا لهو العُجاب؟!،
ربَّاه، كيف نضع هذا الصنيع في مراتب اهل الدهاء؟ ولقد قيل عن دهاة الإسلام الأربعة في مراتب ذات خصوص معلوم قيل عن معاوية بأنه كان للرويّة، وعن عمرو
للبديهة، وعن المغيرة للمعضلات، وعن زياد بن ابي سفيان للكبيرة وللصغيرة، فكيف نصف صنيع عبد العزيز، إلا انه وقد احس بالمعضلة بادهته فكرته وبادهها فلم
يتردد في اتخاذ قراره ولم يتلجلج ولم يتهيب، وإنه لصاحب طلبة، وانه لصغير، وإنه لضيف، وإنه لفي منزلة من يطلب المعروف وليس في منزلة من يسديه، وإنه وقد
صنع ما صنع لم يظهر صنيعته متبوعة بمنَّة أو تكلّف، أو تكبر بل ظهرت منه فضيلة جليلة، مغضاة بفضيلة اجل منها وهل اجل من فضيلة التواضع، ربَّاه، هل هذه
شجاعة، هل هذه مكرمة، هل هذه رحمة، هل هذا عدل، هل هذه منزلة واحدة بين منازل اهل الفضل والمروءات، ام هي فضيلة تدخل في فضائل أخرى، حتى لكأن كل فضيلة في
عبد العزيز لايمكن عزلها عن صويحباتها ولا يمكن وصفها إلا كما توصف كل الفضائل حين تصير متراكبة بعضها فوق بعضها فلا أحد يستطيع وضعها جميعاً وإن صارت
أمام الناظر سهلة ليس لها أجزاء ولكن صعبة ليس لها وصف، ربَّاه، إن عبد العزيز في كل فضائله ليس كغيره من اهل الدهاء، فهو للروية، وهو للبديهة، وهو
للمعضلة، وهو للصغيرة وللكبيرة، وهو للجُلَّى من دواهي المعضلات المذكورة في التاريخ مثل النوادر التي لا تحدث الا كل مئة عام او الف عام فما هو العجب
والعجاب في هذا يارب؟!،
لم يفطن أحد إلى كون عبد العزيز صاحب خيال إيجابي مشبوب، وأنه حين يرى نفسه مشدوداً إلى امر من الأمور يُقَلِّبه في عقله حتى يتلاقَح مع غيره كتلاقح
الأشجار، ثم يَصُبُّ عليه من روحه غذاء يجعله يَتَفَجّر كما تَتَفَجَّر النَّواة في طَفرةٍ من طَفراتِ المرات الخارجة النَّادره، ثم يُطلق الأفكار
المصَوَّرةَ لتحملها أجنِحَةُ الريح إلى الملكوت لتستنشق من الأثير العلوي ثُمَّ تهبط عليه وقد تَخَلَّقَت إلى عمل حيوي يَختَبِئه ويطويه بأضلاعه، حتى إذا
سَنَحت فرصة صالحة للقَنص أطلقها مثل صقر مظفر لمليك مظفّر,
كل فضيلة من فضائل عبد العزيز وهو طفل، وهو فتى، وهو شاب، وهو رجل، وهو كهل، وهو شيخ، وهو في السِّلم، وهو في الحرب، وهو مع نفسه، وهو مع اهله، وهو مع
الناس، كلها واحدة لا تختلف عن صويحباتها في المقدار وإن اختلفت الأعوام والتواريخ ,


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved