أيام العرق والطين
عبدالعزيز يقول عن نفسه: لستُ أشجعَ الناس
لكل شجاعة طاقة ومقدار ومنبع ومجرى ومصب، وقد يتحلى بها الفَسلُ الدنيء من أجل بطنه أو فرجه فيبطش كالسَّبُع الضاري فهذا حيوان أحطُّ من بهيمية السبع لأن
في بعض السباع ما هو أشرف منه، ولا يختلف عنه بمقدار كبير الغضبان المفرط في غضبه مثلما لا يختلف عنهما معاً الشجاع المتهور الذي يفور في دمه ولا يبصر
موضع قدمه,
وأكثر الذين حاربوا عبدالعزيز من هذا النوع الذي يفور في دمه ولا يبصر موضع قدمه فهذا في كل أحواله لا يتخلى عن البدء بالعدوان، ولا ينفكُّ لسانه عن
السِّباب والقحة، ولا يتحلّى النبل الذي يتحلى به الفرسان الأجواد، فهو لا يرعوي عن سفح دم أجناده وأجناد خصومه بلا حساب، وإذا دُعي إلى هدنة مؤقتة لا
يستجيب، أو دُعي إلى سلم وتصالح وتسامح لا يستجيب البتة، بل يزيد ذلك من صلفه وغروره ونهايته تكون مفجعة وتكون بسبب مفهوم غير صحيح لفضيلة الشجاعة كما
يتحلى بها الرسول الكريم والسلف الصالح من عباد الله,
ألم تر أن السيف ينقص قدره
إذا قلت ان السيف أمضى من العصا
كذلك فإن من يقول عن عبدالعزيز بأنه أشجع من كل خصومه فقد دَلَّيت بعبدالعزيز من حيث أردت ان ترفعه الى علِّيين، وذلك لأنه لايوجد وجه شبه واحد بينه وبين
خصومه وليس في ذلك أية مبالغة، ولا مجال لأي قياس ما بين العلة والمعلول، فعبدالعزيز صاحب إرث ديني وفروسي وأخلاقي وحضاري وهؤلاء خصومه لم يعرفوا العقيدة
الصحيحة إلا من أجداد عبدالعزيز، وليس لهم طموح إلا مجرّد البقاء في حكم بقعة محدودة من الجزيرة العربية، وهم في غالبيتهم مغتصِبون الحكم الذي كانوا عليه،
وكل منطلقاتهم وليس لهم إلا منطلق واحد يقوم على العصبية القبلية، وليست لهم فراسة بأخلاق الرجال ولا بأخلاق الفرسان ولا بأخلاق الزعماء، فجهلوا من حيث
كان عبدالعزيز وهو لا يزال يافعاً في الكويت يعرفهم واحداً واحداً ويعرف مدارج الفضل عندهم ومدارج الشجاعة فيهم وما مقدارها وما منبعها وما مجراها وأين
تصبّ وكيف يواجهها وفي أي زمان ومكان, إنه ذات مرة قد تحدث فيما يصفونه عنه في شجاعته، وكان حديثه مع بعض خاصّته ونقل الحديث المرحوم الزركلي في الوجيز
ص186 وهذا نصُّه: في الناس من يصفني بالشجاعة وما الشجاعة؟ كنت في بعض أسفاري مع اثنين من أصحابي أحدهما فيصل الدويش، وخرجت علينا خيل، فهلع قلبي، ولكني
تجلَّدت مخافة العار، وما لبث صاحباي أن لَوَيا عنان فرسيهما، فتبعتهما منحاشاً، ولو فررت قبلهما لفضحاني بين العرب,
والواقع، فإنه حتى ولو هرب قبلهما فإن بعض الهرب لا يُعَدُّ شجاعة فقط، بل يُعَدُّ من الظفر أسمى معانيه، فالحذر في مثل الظروف التي يمرُّ بها عبدالعزيز
هو عماد الشجاعة في أسمى معانيها، وهل أحد منا يجهل أن عبدالعزيز نفسه هو المحارب الذي اخترع في خططه كمائن عسكرية ليست معروفة بمثل الكمائن التي اخترعها
في نوعيّتها وفي كثرتها وفي فعاليتها وفي وجهٍ من وجوه الظفر والفوز بالنتيجة بأقل الخسائر وفي أقرب وقت، إن من يخترع مثل هذه الكمائن جديرٌ به ألا يذهب
ضحية كمين مشابه أو معاكس أو يفوق ما لديه، ولكنه على أيّة حال فاز بالظفر حين هرب بعد أن هرب الدويش ورفيقه، فلقد كان خروج تلك الخيل من وجهٍ مجهول عندهم
ومن هو الذي لا يخاف من المجهول، فلا أحد إلا البليد والجبان والأهوج أو المغرور الذي هو في حكم المجنون والمخبول, هذا وإن حديث عبدالعزيز كما نقله
الزركلي هو حديث لبعض الخاصّة الذين هم فيما يبدو لا يأخذون حديث الملك على محمل غير محمل المؤانسة والمفاكهة والمزاح العابر فيما بين الأصحاب، وهم فيما
يبدو لا يجرؤون على الاستطراد في السؤال لما في ذلك من الفكاهة وهو لا يستطرد في الحديث عن شجاعته لأن من طبع الشجعان الأكارم الا يتحدثوا عن شجاعتهم
تواضعاً منهم وحياءً ورغبة في ترك المعاني تجيء وتروح على مقدار ما في ذهن المستمع من نباهة ولَقَن وإدراك وفطنة، والا فإنه في كثير من معاركه كان يصمد في
تلك اللحظات الحالكة التي يتساوى فيها الشجاع والجبان في الهزيمة وكثيرا ما يقلب موازين القوة في صالحه ويختطف الجوهرة من فم الأفعى ليدعها تحملق وهي
فاغرة فمها لا تدري من أين أُخِذت ولا كيف أخِذت، والأمثلة في هذا كثيرة ويعرفها الشُّداة من طلبة المدارس, على ان عبدالعزيز في شجاعته متميز على خصومه
بما لديه من مؤهلات موروثة ومؤهلات اجتماعية وخَلقية وخُلُقية ونفسية وفكرية وقيادية وقتالية، ومتميِّز باستراتيجية ليس فيها غلوّ ولا تفريط وقد جعل
دعائمها قائمة على أعمدة محكمة من التوازن والتماسك والتدرُّج والمرونة والصلابة والإعداد المتين المحكم حسبما يقدر عليه من التجهيز القتالي البدني،
والتجهيز الاحتياطي، والتجهيز السياسي والاستطلاعي واستخدام المناورة الذكية من حيث الجدَّة والبراعة في حالات الكرِّ والفرِّ، متمسكاً بحبل الله المتين
وبشريعته في الحرب وفي السلم وواضعاً نصب عينيه ان جهاده عبادة وأنه قائم ومستمر إلى ان تقوم الساعة ويأذن الله بيوم القيامة، إنه على وعي كامل بأن كل
شجاعة هي مثل أية طاقة تزيد وتنقص وتقوى بالمران والمثابرة والصدق والاخلاص، وكذلك الايمان يزيد وينقص ويقوى بالطاعة وما يزيد في الطاعة وما يقوّيها
وينمّيها الى الحدِّ الذي يهدف ويسعى إليه,
وليست شجاعة عبدالعزيز ذات صبغة عسكريةبحتة ولكنها متنوعة ومتعددة الأوجه والمزايا، فهو الى جانب ذلك رجل كريم، وكل كريم شجاع لأنه يقهر خوف النفس من
الفاقة، وكلما كان قهره لخوفه أشد ارتفعت شجاعته الى مرتبة عالية، وكذلك فهو صبور وحليم، والصبور شجاع والحليم شجاع لأن كل واحد يقهر في نفسه لذة الفوز
والغلبة ويكظم غيظه مما يلاقيه من الخصوم، وهناك من قصص صبره وحلمه ما يوازي قصص كرمه، وهناك من فضائله المعروفة مثل وفائه وطلاقة وجهه وتغاضيه وسماحته
وفراسته وصراحته وصدقه ووضوحه وقدرته على التنبؤ واختطاف الجواهر النفيسة من سماء الأفكار ودهائه ونبوءته وما الى ذلك من الفضائل الزكية النادرة ما لو
رصدناها وحللناها ورصفناها الى شجاعته لكان لنا أن نقول بكل فخر بأنه لا وجه في المقارنة بين عبدالعزيز وبين خصومه أو بين عبدالعزيز وأعلام السياسة في
القرن العشرين,
عبدالعزيز من أبطال التأريخ الإسلامي بأسره ومن أبطاله ذوي السبق الى الصف الأول، وإنه - بلا منازع - أول زعيم حكم الجزيرة العربية بعد الخلفاء الراشدين
وأعاد لها كيانها المتين على نفس المنوال الذي كان عليه الخلفاء الراشدون، وفي القديم قال بعض الحكماء: الشجاعة اصل كل خير، وقيل: هي عماد الفضائل وأصلها
في ثبات القلب ورباطة الجأش والجرأة والاقدام والصبر على المكاره واغتنام الفرصة في وقتها، وهي في منزلة بين الجبن والتهور والفرق بينها وبين الصبر والكرم
ان الصبر في الحرب شجاعة، وفي امساك النفس عن الفضول قناعة، وفي امساك كلام الضمير كتمان، والكرم ان كان بمال فهو جود وان كان بكف ضرر مع القدرة فهو عفو،
وان كان ببذل النفس فهو شجاعة,
وقيل: ان كل فضيلة مالم تكن مدعومة بقوة القلب وثباته فلن تتحقق، فالجبان يفرّعن أمه وابيه، والشجاع يقاتل عمن لا يثوب به الى رحله, فبقوة القلب يصاب
امتثال الأوامر والانتهاء عن الزواجر، وبقوة القلب يصاب اكتساب الفضائل، وبقوة القلب يصبر الجليس على ايذاء الجليس وجفاء الصاحب الى آخر ما في المعاني من
مدلولات واضحة وغير واضحة,
ان أكثر المؤرخين لا يتجاوزون في حديثهم عن شجاعة عبدالعزيز حديثهم الأول عن فتح الرياض، فقد سحرتهم هذه القصة وأنستهم قصصا كثيرة ذات أبعاد جديدة في فن
الجهاد والمناورة والكروالفر مما يشكل بناء فلسفة متكاملة في شجاعة الملك عبدالعزيز، وهناك في تضاعيف كل قصة نقاط معتمة تحتاج الى اعادة كتابة تأريخه من
جديد بإدراك أقوى وأسلوب أحدث وخبرة أوسع وأجدى من تلك الطرق التي كُتب بها تأريخه المتوفر بين أيدي الناس,
لسنا مبالغين اذا قلنا بأن شمس كل يوم وهي تشرق علينا في هذا الوطن الشجاع الكريم المعطاء هي شمس جديدة تنضوي تحتها شمس عبدالعزيز من يوم شروقها يوم ان
فتح الرياض الى ان وحد المملكة الى ان غادر الى ثراه الطيب وثرياه مثل شمسه صارت مجرة لا حدود لها من كواكب لا يعلم أعدادها إلا الله جلت منزلته، وسلام
عليه في غروب كل شمس وفي طلوع كل شمس,
عبدالله نور


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved