خَدَرٍ كأنها سكرى وفي خفر كأنها خجلى ولا تريد أن تراه ولا هو يراها إلا في الرياض,
منذ وقت بعيد من أيام اليفاع كان قد استقر في ضميره أن الأمور تستوجب منه الشجاعة ليقوم بدور البطل المنقذ والمخلص، وكان لا ينفك صباح مساء من قراءة وِرده
المخصوص، وقراءة كل الخطوط الغامضة في جغرافيا الشمس وفي جغرافية فكره، ويقارن ويوازن ويعادل بين شمس السماء وبين شمسه هو، إنه يدرك أنه مايزال شمساً
صغيرةً وعليه أن يكبر ليفهم أكثر وأكثر، إنه على علم كامل بأنه مشدود بحبلٍ نوراني يصله بخالق الشمس ولينظر في آفاق نفسه وفي كل الآفاق وليتبصَّر في كل
الشموس الحائمة ويفتح كل يوم صفحة جديدة مع كل شمس جديدة,
طبيعي أنه اليوم على غير ما يُرام، إنه الآن مع والده وأفراد أسرته في منزلة اللاجىء الغريب الذي ضاع منه وطنه، إنه الآن في مسئولية مضاعفة ومعقدة تستلزم
منه أن يكون أشد فهماً لمداره الفلكي وإلا ضاع وأضاع في بريق اللجج المضيئة في شمس المدن البحرية، وابتلعته أعاصير السهوب وأدخنة الشمس الساحلية,
إن هذا الورد الذي يتلوه صباح مساء ليس مجرد ورد يُتلى على مقتضى تربية دينية متوارثة، بل إنه البوصلة التي تعيده إلى المحور الذي منه يصدر وإليه يعود،
وعليه أن يساعد نفسه لأن الله سبحانه لا يساعد من لا يساعد نفسه، وعليه أن يتذرع بكل فضيلة ليجعلها في خدمة الهدف الذي يصبو إليه، وأولى هذه الفضائل
فضيلة الشجاعة وما تنضوي عليه من إيمان خالص بالله وما يقوم عليه هذا الإيمان بكل اركانه وشروطه وما يستتبع ذلك من ثقة بالنفس وإطمئنان إلى الحق، ومجاهدة
مستميتة في قرير نفسه وترويضها على اقتحام المخاطر وحمل المسؤوليات المضاعفة والمعقدة وبذل كل ما لديه من طاقات بدنية وروحية وفكرية وخلقية ووجدانية وأن
تكون صلته بالله وثيقة ومتينة مهما ادلهمت السماء وغابت النجوم وهاجت الأعاصير أو ما جت به الأمواج,
هناك جروح صغيرة لاشك انهاستؤلمه ليوم أو يومين ولكنها في أيام قلائل ستبرأ ويطويها النسيان، فالبيت الآن صغير وصغير جداً، إنه مجرد بويت من ثلاث غرف ولو
انه كان في الرياض ولجأ إليه من هو في مكانته لأسكنه قصراً يليق به ولكن لابأس لا بأس فإنما ذلكم الفضل لا يعرفه إلا ذووه وهناك جروح أخرى ستؤذيه كل يوم
وسيشعر بها مما يراه في عيون الناس وأحياناً في تعاريض كلامهم، ولكن لابأس لابأس فإنه قد تعوَّد على صلاء الهجَير والهُجِّيرى وهل يضيره لفح العيون ووهج
الكلام مادام يعرف نفسه بالذي لا يزيده من هذا إلا ما يرفعه إلى أعلى عليين، انه يؤمن إيماناً تاماً بالنور الذي في قلبه، وأن كيانه من عروق الشمس وهذا
يكفيه كرجل عابر سبيل وما مقامه إلا مقام المهاجر في محطة استراحة لابد لكل عابر أو مهاجر أو محارب أن يأخذ نصيبه منها,
قيل لأبيه الإمام ذات يوم كلام غريب عن ابنه عبد العزيز، صار في لياليه الأخيرة يفخت ونحن نيام ولا يعود إلاَّ في آخر الليل وقد صار يجنح إلى العزلة وكأنه
يحدث نفسه بنفسه,
جزع الشيخ من هذا الخبر جزعاً شديداً فعبد العزيز الآن في السابعة عشرة من عمره وينظر إلى الثامنة عشرة، إنه يعبر أعوام المراهقة ولابد من إعطاء المسألة
حقها من الاهتمام والحذر والتنبيه والرعايه, والكلام لا يحتاج إلى كلام,
لا لوم على الشيخ إذا جزع وصار يتعقبه بشكل من الأشكال ليعرف جلية الأمر، إن مشاعر كل فتى وهو يدخل اعوام الشباب عرضة لمشاعر غريبة جامحة، ولكن أكثرها
جماحاً واشدها تفلُّتاً من قبضة العقل هو الشعور أو الرغبة في الزواج، إنه شعور يتفلت كتفلت الجمال من عقلها او السباع من اصفادها فإن تركت اهلكت وإن حبست
هلكت، فياله من موقف صعب وكل مواقف الشيخ لاتزداد مع الأيام إلا صعوبة فوق صعوبة,
كان فرج الله أقرب من القريب، لم يجدوا في تعقبهم غير أنه يخرج إلى أقرب فسحة من الأرض نائية عن الفريق ويصعد فوق اقرب ربوة ناهدة ليناجي شيئا في الصحراء
ثم يعود وينام، إنه يناجي شيئاً ما ولكن ليس هناك مناجاة لليلى ولا سلوى اللهم إلا سلمى وكذاك الدنيا يسمونها سلمى,
أجابهم بكل بساطة بأنه كل ليلة يجلس ويفكر ويتخيل كيف يحكم نجداً وليس معه إلا هذا المحجان وضحك وهو يهز المحجان في يده واستضحكهم فضحكوا معه ولكنهم على
أية حال أسرعوا فزوجوه وتدبروا امر المهر والنفقة بالتي واللتَيَّة كما يقال، ولكن ها هو جرح جديد قد بدأ يشعر به من حيث طابت كل الجروح فجاء هذا الجرح
لينكأها من جديد,
صار في كل أذان للصلاة يسمعه يشعر ان جميع المآذن والمنابر تلتفت إليه وان في أعماق كل أذان أو دعاء صوتاً خفيضاً ناحلاً وهاجساً يكلمه فيتذكر جده الإمام
فيصل وجده الإمام تركي بن عبدالله؟ ماذا عليه لو استعاد ملكه بنفس أسلوب فيصل وأسلوب تركي,
إنها لفكرة مشبوبة بخيال جامح ولكنه مشدود إلى الواقع بحبال متينة,
إن عليه أن يرى الشمس في غيهب الليل الأدلم المتراكب بالسواد والظلمة والعماء، إنه شجاع لا يقل في شجاعته عن اسلافه الاولين وما منهم من انتظر ليبني
الجيش بل هم بمفرد كل واحد بنى الجيش وان الله لايساعد من لا يساعد نفسه، ونام عبد العزيز هذه الليلة وهو يردد في قلبه إن الله لا يساعد من لا يساعد نفسه,
وطافت في سماء ليلته شمس شقراء تنبض بالشوق الذي لا يعرفه إلا هو,