ولدت الحكايات الشعبية من رحم الحياة الهامشية للناس البسطاء العاديين وأنارت هذه الحكايات اضافة الى نصوص أخرى مثل الأخبار والتواريخ والأمثال والسير
والرحلات,, فضاءات الليالي محملة بالخوف والحزن والفرح والمغامرة، وقد تطورت هذه النصوص مع الحكي الشفوي المستمر، وأضاف اليها المخيال الجمعي من خلال تعدد
رواياتها اضافات كثيرة في سياقات خرافية واسطورية، تمتعت فيها السردية سلطة المرأة بشكل خاص بسياق رواية القص أو الحكي، وانجزت قاعدة الصغار مسألة
التلقي والتفاعل، مما يساعد عقولهم الصغيرة على الخروج من عالم الواقع والمباشرة والعادية الى عوالم المغامرات والغرائب والأهوال وأفراح الانتصارات,
ثم انبثقت القصة القصيرة من رحم الحكاية الشعبية، وبقيت محتفلة الى اليوم بايقاعات هذا الهامش الشعبي، رغم تطورها وكسرها لأبعاد الحكاية المألوفة كالتسلسل
الزمني والحدث ووضوح الشخصية وتقريرية اللغة,, وما زالت القصية القصيرة (والرواية) منذ أكثر من قرن من أهم السرديات احتفالاً بالشعبي وفي الوقت نفسه
احتفاظاً بالتجريب والانجاز في حقول الموروث الشعبي في الحياة العادية ومن هنا يمكن القول بأن اهم الخطابات السردية المعاصرة هي تلك السرديات التي فعلت
سياقَي الشعبي والتراثي الرسمي في متنها، فأعادت بطريقة أو بأخرى انتاج أو صياغة التاريخ وحكايات الف ليلة وليلة والمقامات والسير الشعبية والخرافات
والأساطير وطرائف الأخبار والحكم والأمثال، وغيرها مما يجسد الجماليات اللغوية الاجتماعية المبثوثة سردياً في وعي المخيال الجمعي للأمة العربية تاريخياً,
ونتيجة لذلك فقد جاءت الصور والمفردات اللغوية والشخصيات والزمكانيات عادة ومألوفة للقراء العاديين المتجذرين في هوامشهم الشعبية ضمن حركية التفاعل اليومي
المعيشي الثقافي الذي يكرر نفسه في تواريخ مختلفة بصور متجددة ومتنوعة، مما يعني بالتالي وجود مفارقات كبيرة بين اللغتين الابداعيتين الشعرية والسردية،
ففي الوقت الذي حققت فيه اللغة السردية جمالياتها من تعددية أصواتها وتنوع رواتها وبساطة تراكيبها وألفتها,, نجد اللغة الشعرية عموماً (نستثني اللغة التي
تميل الى السردية) تحقق جمالياتها من خلال احتفالها بأحادية صوتية تنجز ثقافة الشاعر المستمدة من ثقافة عصره الرسمي وتراكيب لغوية رسمية كلاسية تنجز
الطابع الثقافي الرسمي أيضاً,
ان الهامش الشعبي غني باشكالياته الجمالية الكثيرة في مستويات الخطاب والحكاية والتأويل، ومن خلال هذه المستويات الثلاثة يمكن الحديث عن قضايا متعددة
جمالية ودلالية في انساق الراوي والمروي والمروي له في أية حكاية شعبية أو خطاب شعبي آخر ينتج في سياق قصة قصيرة معاصرة، مما يفضي بنا الى البحث عن
الجمالي الملح في الكيفية أو الصورة التي انتجت فيها سردية تراثية في متن سردية جديدة ذات آلية خاصة ومتفاعلة في الوقت نفسه مع الآلية التراثية، وما
تنتجه مقارنة بين الثقافتين من مضامين ودلالات تجعل السردية فعلاً نقدياً يعنى بمظاهر الخطاب السردي هيكلية ودلالة,
،* * *
والقصة القصيرة من أهم الخطابات الابداعية المعاصرة احتفالاً بالموروث الشعبي، اضافة الى انها ذات صلة وثيقة بتقنيات الكتابة الجديدة,
ان موضوع هذه المقاربة هو ست قصص عشوائية لستة قاصين، صدرت أغلب مجموعاتهم التي أخذت منها القصص في التسعينيات ولم يكن في اختيار هذه القصص، ايضاً،
منهجية معينة,
وهدف هذه المقاربة هو رصد ظاهرة التحول في القصص المختارة، حيث ان استخدام الموروث الشعبي لا يحدث لغاية الإحياء والتعريف، بل هو استخدام يحقق او ينجز
التحول الترميزي من خلال تحول الذئب الى انسان، وتحول هيكلية الأشياء الغرائبية في عالم اليوم الى غول بشع لا يدرك بالحواس الفعلية الروحانية، وتحول الفعل
السيري الايجابي الذي يكتنزه الماضي الانساني البسيط الى فعل سخرية تراجيدية في ظل الماديات الراهنة والعقليات الببغاوية الانتحارية,, فما السقف الذي
انجزته بعض القصص في رصد ظاهرة التحول هذه عن طريق توظيف الحكي الشعبي ؟!،
،* * *
،2- حكايات الذئب:
حكايات الذئب كثيرة في الثقافة الشعبية فالذئب من الرموز الشريرة العنيفة، ولعل حكاية ليلى والذئب من أهم الحكايات المشهورة في الثقافة العربية الشعبية،
وفي هذه الحكاية تنتصر ليلى على الذئب رغم محاولاته المتعددة لأكلها، وقد اتخذت هذه الحكاية مجالها الواسع في التصوير الرمزي المتعددللمقارنة بين الخير
والشر أو بين الرجل والمرأة أو بين الوداعة الروحيةوالشهوانية الجسدية,
فما تقدمه قصة شريفة الشملان ليلى والذئاب (مقاطع من حياة، ص ص 57-61) هو مستويان من القص، هما: مستوى القص الشعبي المتمثل في حكاية الذئب والخروف الصغير
، ومستوى قصة ليلى طالبة المدرسة في تفاعلاتها مع امها ومعلمتها في جوف الحكاية الشعبية، وهذان المستويان يقدمان دلالة الصراع بين القوي والضعيف في نسق
الخير والشر,
تواجه ليلى كمايظهر من العنوان مجموعة الذئاب المفترسة التي تترصدها في أحلامها، فرغم كونها تعيش جانباً مريحاً في حياتها الحكائية من خلال حكايات سندريلا
والأقزام السبعة وقطر الندى وغيرهما,, الا أن حياتها لم تعد مستقرة اطلاقاً بعدما قصت عليها أمها حكايات الذئاب مثل: ليلى والذئب، وأم العنزين، والذئب
والخروف الصغير,
ثم ينساق الحكي في سرد حكاية الذئب والخروف الصغير ، فالذئب المفترس يجمع حوله الذئاب لافتراس الخراف الصغيرة، لكن الخروف الشجاع الواثق بقرنيه الصغيرين
وبصديقه الدب الأبيض يقرر أن يتحدى الذئب لينتصر عليه ويخلص العالم من شروره، ولا يقف عقبة في تحقيق حلمه سوى الخراف الأخرى التي لا تنجز شيئاً يذكر
لمقاومة الذئاب، بل انها تقدره لأنه يعطيها المادة الدهنية لتشحذ بها قرونها في مواجهة بعضها اثناء حروبها الداخلية, وهذا ما يسهل على الذئاب الفتك بها,
وما ان تحدث الحرب المنتظرة حتى تكون نتيجة المعركة النهائية بين الخروف الشجاع والذئاب ان يخسر هذا الخروف الشجاع قرنيه واحدى عينيه، وجدول مائه النظيف،
فالدب لم يقدم لهذا الخروف الشجاع شيئاً سوى الكلام ا لمعسول من غير فعل، كما ان الذئاب فتكت بالخراف الأخرى، وما بقي منها حياً انزوى في جحره، ويصر
الخروف على ان يربي قرنيه مرة اخرى لينتصر مستقبلا على الذئاب,
وهكذا تجد ليلى نفسها في نهاية الحكاية السابقة في حالة قلق شديد تجاه الكون الذي ينقسم الى قسمين، قسم الذئاب رمز الشر والقوة من جهة، وقسم ليلى والخراف
الصغيرة رمز الخير والضعف من جهة أخرى، لتنتهي القصة متأملة في البحث عن طريقة ما يمكن للخير من خلالها ان ينتصر على الشر:
لذا ليلى تخاف الذئاب,, تخاف فهي لا تملك قرنين, سألت ليلى معلمتها: عندما تأتي الذئاب ماذا نفعل؟ قالت لها المعلمة: نتعلم قبل أن تأتي الذئاب, ليلى سألت
معلمتها: وهل نقتلها بالعلم!؟ قالت المعلمة: ممكن جداً إذا حددنا أماكن انتشارها,, عندما أفردت ليلى الخريطة وجدت أن الذئاب تملأ الكرة الأرضية,, ولم تعد
ليلى تنام,, ص 61 ,
تقدم قصة الشملان هذه على المستوى الجمالي حكاية داخل حكاية، إذ تشكل حكاية ليلى طالبة المدرسة الاطار العام الذي تقدم من خلاله حكاية الذئب والخروف
الصغير، ومن خلال هذا الدمج بين المستويين من الحكي يتحقق فعل التحول في رمزية الحكاية القديمة على واقع معاصر، انتقل فيها الصراع من مستوى الطبيعي
الحيواني الى مستوى البشري، حيث ينقسم الناس الى ذئاب كثيرة وخراف مجروحة منزوية,, ومانور العلم المشع في نهاية القصة، ومثابرة الخروف قبل ذلك على محاربة
الذئاب سوى اشارتين مهمتين في تجسيد الحرص على تخليص العالم من شروره,
،* * *
يسيتخدم تركي ناصر السديري الذئب استخداماً رامزاً في قصته يابونا جانا الذيب مجموعة ناقة العوني ص ص 81-84 ، وذلك في سياق غزو العراق للكويت، فما رأته
ليلى في خارطة العالم من كثرة الذئاب في قصة الشملان نجده متمثلاً في قصة السديري في نموذج واحد من تلك الذئاب، حيث الذئب هو الرجل الشرير,, فأبطال القصة
الاخوة الخمسة الصغار نجدهم دائماً يلعبون لعبة الحملان والذئب، وكانوا يكبرون يوماً بعد يوم مع هذه اللعبة حتى يخيل اليهم انهم لم يعودوا يمارسون لعبة
عادية، بل اصبحوا يدركون من غير وعي منهم انهم يمارسون واقعاً مريراً يغيب عنه الأب، وتحضر الام المتخوفة القلقة التي لا تقدر على فعل شيء سوى طمأنة
أولادها بأن الذئب غير موجود بينهم، وأن وجوده في الخارج وجود وهمي، ثم يظهر بالتالي الأخ الأكبر ليمارس فعل الذئب الحقيقي، لأنه أصبح مسعوراً إثر عضة
قديمة نهشها الذئب الحقيقي في لحمه، فأصبح هو نفسه يمارس العضات والخربشات المسمومة باخوته، مما يعني التخوف من تحولهم جميعاً الى ذئاب مفترسة في دائرة
الحرب الضروس، يقول الأخ الأكبر والراوي: كل ليلة اتقمص ذئباً، حتى تحولت الى ذئب,, فتكت بهم,, هكذا يجب ان تفعل الذئاب يحشرجها من صوت جسد بات مسعوراً،
واقفاً على قوائمة الأربع، مقوساً ظهره، تماماً كما يفعل ذئب متحفز يطلق صوت عواء، تزداد حشرجة حلقه الجاف الا من بقية دم ساق احد اخوته ص 83 ,
لم يستخدم السديري حكاية بعينها وانما استخدم صورة الذئب كتقنية مألوفة في الخطاب الابداعي الترميزي الحديث، ليصبح تكنيك القصة ككل مستلاً من تكنيك
الموروث الذي خلفته الحكاية الشعبية، وهو تكنيك الطرفين المتناقضين، طرف الذئب الذي تحول هنا الى صورة الأخ الأكبر/ الأب الوهمي، وطرف الأطفال الصغار
المرددين خوفهم: يابونا جانا الذيب ,, ويبقى الأب غائباً، بل يتحول الى صياغة من صياغات الابن الأكبر: تدخل من الراوي (أين الأب,, أين هو؟) تقول الأم
مجيبة، وقد تحولت الى دمعة مقسومة: لعله هو,, نظر كل من سمعها ناحية الأفق، تراءى لهم ظل لقادم، لعله للأب، قديكون للذئب، لشيء له ظل,, ص 84 ,
وبهذه النهاية المتشككة تتلخص اشكاليات الصراع بين الاخوة دون ان يكون لديهم مبرر لهذاالصراع سوى الجنون والمرض,
ان الاشكالية التي ترسمها هذه القصة في صياغة التحول هي تلك الروح الدؤوبة لدى القاص في تحويل الحكاية الشعبية الى نسق ترميزي معاصر له مايبرره في فضاء
الصراع بين الإخوة، حيث نهش الأخ الأكبر في نسق الجنون والسعار لحم اخوته الصغار,