أيام العرق و الطين
ينابيع الطاقة الشمسية في شجاعة الملك عبدالعزيز
ها إنها أول معركة حربية يدخل فيها عبدالعزيز وهو فتى مع خصمه وجها لوجه ورجلا لرجل في مفاوضة حول تقاسم السلطة بين أبيه الإمام عبدالرحمن وبين محمد بن
عبدالله بن رشيد,
كان خصمه محمد بن رشيد من المتفتكين في عصره بلا منازع، وكان كما بدا في ديباجة كلامه لطيفا ودودا وواثقا من نفسه ثقة مطلقة، فبدأ بتعزية عبدالعزيز في
شقيقه الأكبر فيصل، ثم دعا لعبدالعزيز بأن يكون خير خلف لخير سلف ثم انثنى يتقرَّأ وجه عبدالعزيز ووجه أخيه محمد ووجه الشيخ عبدالله بن عبداللطيف، ثم مضى
في الكلام ليشرع في بسط مقصده الحقيقي ومال الى جهة آل سعود بعد وفاة الإمام فيصل بن تركي فصار يتلومهم حتى إنهم صاروا، وصاروا، وصاروا، وصار ان صرخ فيه
عبدالعزيز وانشق عن نفسه مثل مارد أفلت من قمقم وصبَّ من عينيه شواظا من لهيب الشمس كما لو كانت في يوم القيامة، واختطف من زوغان عيني خصمه علائم انكساره
لهول المفاجأة، وهول المفارقة بين صورة الفتى عبدالعزيز كما قد انطبعت في فكره وبين صورته الآن وقد تأجج بالغضب مثل براكين الشمس إذا هي كوِّرت، أو أعاصير
البحار إذا هي سُجِّرت,
إذن كانت معركة حربية، وكانت رمزية، وكانت انتصارا لعبدالعزيز بن عبدالرحمن وهو فتى في الرابعة عشرة من عمره، وكانت هزيمة وليس مثلها هزيمة لمحمد بن رشيد،
ودائما، دائما، فإن الملوك لايلامون أبدا أبدا، وهم أيضا لا يحبون ان يلوموا أحدا أبدا، أبدا,
ظلت هذه الحادثة الصغيرة في قلب عبدالعزيز تضطرم وتكبر حتى صارت طاقة شمسية يحس بها تزدحم مع طاقته الشمسية التي اضطرمت وكبرت معه من عمر طفولته حتى عمر
اليفاع، وتعززت فيما بعد فصار ما بين حين وآخر يبصر في أحلامه صورته وصورة محمد بن رشيد في مطاردة حربية يفوز فيها ويركض ابن رشيد من أمامه هاربا مخلوع
الفؤاد لا يلوي على شيء,
أما ابن رشيد، فمن المؤكد انه عانى من هذا الجرح، ومن المظنون انه أبدى لجلسائه حذره من هذا الفتى الناشىء عبدالعزيز، وسواء هذا أو ذاك، فالذي تصوره
عبدالعزيز في أحلامه قد تحقق في صورة عبدالعزيز المتعب والقصة معروفة,
أسود الرجال مثل أسود الآكام، ومن اليسير على أي صاحب معرفة متوسطة ان يرى اشبال الاسد في عرينه ويرى معالم الشجاعة في كل شبل وهو مجرد وليد، لو أنك
اطلقت رصاصة على عرين الأسد فأنت سترى من أشباله من هو ساكن، ومن هو مندهش، ومن هو عائذ الى أمه، ومن هو ناهض ليستعلم،ومن يتقدم ويركض صوب الرصاصة، ومن هو
قد اندس في أقرب جحر يليه!! ومن المعلوم ان لكل شبل عند أمه رعاية خاصة تدل على مقدار فراهته، ومقدار شجاعته، وهكذا فلنتصور طفولة عبدالعزيز,
أمه سارة بنت احمد السديري شاعرة وسليلة فرسان أكارم، وهي من يوم ان لقم ثديها ارضعته وعصرت في فيه سلافة أسلاف أبيه وأبيها، وأما أبوه فعالم وفقيه وأديب
وورع فاضل، كان أصغر إخوته، وللعمر ضرورات وله أحكام، وكان ان جاء الى الحكم والدهر قد مال الى نهاية القرن وقد ولى شبابه واكتهاله والحزب الأول من
شيخوخته، وتراكضت متوالية أمراضه وأوجاعه فكان حظه من الحكم ان سلب الدهر منه كل محاسنه ومزاياه، وزاد عليه فأثقله بكل ما في غيره من المتاعب والهموم،
وكان شجاعا في تزويده لوليده عبدالعزيز بكل ما لديه من الرواية والدراية وعلّمه ان يصحو قبل الفجر ليصلي ويتعبد ويستقبل الشمس في ينابيعها المتفجرة حين
تشرق ويشرق الكون كله بيوم جديد، وفجر جديد، وصبح جديد، وهكذا كان عبدالعزيز يملأ روحه بالإيمان ويملأ جسمه بالشمس وكان شجاعا في كل خطوة من خطوات طفولته،
وكان ولا يزال طري العود يلثغ بالكلمات يتعلى على ظهور الخيل وهي أعراء، ويملخ الطنب من الخيمة فيكسره بجمعيه، ويُعافس القلة الثقيلة من التمر فيحملها
بأسنانه، وكان يكبر وطاقته تكبر ولهاث الشمس فيما بين أقدامه يكبر، ولو ان محمد بن رشيد لم يغتر وأعطى بصره وبصيرته شيئا يسيرا من النظر لوجد في الفتى
عبدالعزيز مخايل جده الإمام تركي بن عبدالله واضحة وضوح الشمس، قوام شامس، أنف شموس، ابتسامة شميسية كأنها بوابة فردوس باذخ بالنعيم,
طبيعي ان ثمة روافد من هنا وهناك، فمما لاشك فيه ان شيخه وأستاذه العلامة الشيخ عبدالله بن عبداللطيف قد اصفى له نخيلة وجدانه كلها، ومما لاشك فيه ان شباب
آل سعود من المعجبين به وممن التفوا حوله قد أفرغوا كل ما في الجعبة من المعارف والخبرات، ولاسيما الأمير ناصر بن فرحان الذي كان أكبر منه معاصرة للأحداث
المريرة,
لكن الذي حمل الشمس بيديه وجعلها بين يديه ليراها، بل ليلمسها، بل ليحتضنها، بل ان شاء ليشربها أو يأكلها، فذلكم هي عمته ويالها من عمة أحبت عبدالعزيز
وأحبها، وربما لو خُيرت ولو خيّر في ان يغادرا معا ويدفنا معا لكان ذلك خيارا ولا بعده خيار,
ان شجاعة عبدالعزيز وهو طفل صغير في تقبل الوضع المأساوي الذي آل اليه عهد حكم أبيه، دون ان يمرض، دون ان يعبث، دون ان ينكسر، دون ان ينحرف، دون ان يتبدد
أو يتبعثر، ودون ان يدع نقطة غائرة في وجدانه بعيدة عن ضوء الشمس, ان لهو هذا الابداع، ان لهو هذا الاعجاز,
عبدالعزيز ليس مجرد شجاع فحسب، بل صاحب منهج وفلسفة ورؤية كاملة سجلها بإملائه على بعض جلسائه من الأدباء، وهو متواضع لا يصف نفسه كقائد شجاع، بل لعله
يداعبهم فيصف نفسه بأنه جبان وليس هو والله بالجبان، ولكنا نحن الذين نعجز عن اقتحام ينابيعه الشمسية لنبرزها بجلوة شمسية تليق بنا وبكرامتنا وبتاريخنا,
فلنكن شجعانا لا نامت أعين الجبناء,
عبدالله نور


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved