حفل بالكثير من النماذج الشعرية لشعراء لا يقلون أهمية عن شعراء المعلقات من حيث الجودة الفنية أو نفاذ البصيرة أو العمق والروعة في التشكيل الجمالي ومن
هؤلاء الشعراء عدي ابن زيد الذي دار معظم شعره حول محورين: الأول حب الحياة وتمثل في تعلقه بالجمال الانثوي وادمان النظر في مجالي الطبيعة والمحور الثاني
هو تأمل المصير الانساني وتحولات الأيام, وقد كان عدي شاعرا مثقفا ينتسب الى قبيلة تميم، ولد بالحيرة وكانت ولاية فارسية ودفعه طموحه الى اتقان اللغة
الفارسية حتى اصبح مترجما بل وكاتبا في بلاط كسرى بل نستطيع ان نقول ان دوره تجاوز الترجمة الى المجال الدبلوماسي فقد أوفده كسرى ببعض الرسائل الى قيصر
الروم في القسطنطينية ولعب دورا عند كسرى ايضا لكي يتولى النعمان بن المنذر ولاية الحيرة مما جعله هدفا لنقمة بعض خصومه الذين وشوا به عند النعمان بن
المنذر نفسه فزج به في السجن حيث تحولت حياته من النعيم الى البؤس ومن حب الحياة الى الزهد فيها,
ان عديا تجاوز حدود الشاعر الى معترك السياسة دون ان تكون لديه الخلفية الكافية ولهذا احترق بنيران المكائد السياسية ويرى الدكتور يوسف خليف ان ثقافة عدي
بن زيد وتحضره قد انعكسا على شعره فلانت لغته وسهل اسلوبه ورقت عبارته وتأثرت صوره الشعرية بهذه الحياة الحضرية التي عاشها بعيدا عن جفاف البادية
وقسوتها,, بل لقد تسللت بعض الألفاظ الفارسية الى شعره وقد تأثر بشعره شاعر جاهلي آخر هو الأعشى الذي تأثر به فيما بعد أبونواس كما تأثر بنزعته في الزهد,
الشعراء الذين جاءوا بعده ربما كان منهم ابوالعتاهية ولاشك ان دورة الاقبال على الحياة والزهد فيها قد ظهرت في شعر بعض كبار الشعراء كتعبير عن التحول الذي
يصيب القلوب، والنفوس بعد وقوع الخطوب وابو نواس أبرز الأمثلة على ذلك، فقد تهالك على الخمر معظم سنوات عمره وفي أغلب شعره ثم ثاب الى لون من الزهد كتكفير
عن لهوه الأول, يقول عدي بن زيد:
بكر العاذلون في وضح الصبح يقولون لي اما تستفيق
ويلومون فيك يا ابنة عبدالله والقلب عندكم موثوق
لست أدري إذ أكثروا العذل عندي أعدوٌّ يلومني أم صديق
الشاعر هنا يشير الى هؤلاء الذين يلومونه على افراطه في الحب ويبدو ان هؤلاء اللوّام قد ألحفوا في لومهم بعد ما رأوا عديا لا يكاد يفيق من لهوه فهو على ما
يبدو من القصيدة يصل الليل بالنهار فلو اقتصر لهوه على الليل لستره الليل عن عذّاله ولائميه، ولكن مجاهرته باللهو في وضح النهار هو الذي أغرى به هؤلاء
الذين يشكوهم الى محبوبته ابنة عبدالله التي يصف قلبه بأنه موثوق عندها, ثم ينتقل في وصف الطبيعة,
أما تأمل الشاعر في المصير الانساني فقد استغرق الشاعر خلال مرحلة المحنة التي مر بها بعد ان زج به النعمان في السجن فرأى الدنيا وقد غدرت به ونالته
بالأذى من حيث لم يكن يتوقع وقد انقلبت حاله بعد ان ظهرت بوادر الشيب في رأسه والقصيدة تبدأ بالحديث عن خداع الحسان اللواتي يوقعن الرجال في حبائلهن
بالشفوف أي الثياب الرقيقة وهو يشبههن بالدمى من العاج ونبات الكمأة الابيض بزهره المضيء وهو يشكو غدر النساء بعد رحيل الشباب وابيضاض السواد كما يقول
ومجيء الشيب نذير بانقضاء أيام الأنس واللهو والمتعة يقول عدى بن زيد:
أرواحٌ مودّعٌ ام بكور/ لك فاعلم لأي حال قصير
ان شغل المصابيات من الاستار طرف يصبي وفيه فتور
زانهن الشفوف ينضحن بالمسك وعيش مفانق وحرير
كدمى العاج في المحاريب أو كالبيض في الروض زهره مستنير
لا تواتيك ان صحوت وان اشرق في العارضين منك القتير
وابيضاض السواد من نذر الشر وهل بعده لإنسٍ نذير
هل يرمز الشاعر الى الدنيا بهذه المرأة الجميلة التي توقع الرجل في حبائلها ثم تتخلى عنه بعد ان يفارقه شبابه ويولى صباه, ان هذا المدخل الذي يبدأ به عدي
قصيدته يومي بأنه يعمد الى الرمز لأنه ينتقل بعد ذلك الى تأمل الحياة وانقلاب حالها فيقول:
ايها الشامت المحير بالدهر أأنت المبرّأ الموفور
ألديك العهد الوثيق من الايام, بل أنت جاهل مغرور,
أرأيت المنون خلدن أم من ذا عليه من ان يضام مجير
ثم يضرب الأمثال بالذين غرّهم سلطانهم فيقول:
فارعوى قلبه وقال: ما غبطة حيٍّ الى الممات يصير!،
ثم اضحوا كأنهم ورق جف فألوت به الصَّبا والدبور