أيام العرق والطين
عبدالله نور
تَحويماتٌ صَوبَ الجِدَارِيَّة الزَّمكانيّةِ لابن سعود
حاد النظرات، يَتَفَرَّس بموق عينيه وحِملاَقيه كانه العِربَدِّي في مغارةٍ دهريةٍ، عيناه سَجروان كجمر الغضا المُشلَهِب جبينه إصليت مُزَيَّن باستدارة
لطيفة، وأنفه عِرنِينٌ أقنى كأن تحته أنف رابض وبآخره أَنفٌ نابت، والكف رَحبُةٌ تنبع منها أصابع كأنها من خيزران جبل ثهلان، ووجه بديع أسيل محفوف بعارضين
لا يجودان بشعر مُعَنثَل، وفيه إشراقة عذبة مُسَوَّرَة بريشتين من سوابقٍ ناهضةٍ لباشقٍ ناهضٍ,
وطوله ستّةَ أقدام إذا مشى يَتَصَبَّبَ كالجمل الأورق، وإذا خَزَّر عينيه في قفا أحد مستريب لواه، وإذا أنكر في عين السامع ما ليس في وجهه شدّه إليه أو
خَبَّله,
قيل عن شدة بأسه أنه في ميعة صباه تَعَلّى على ظهر بعير مُغتَلم شَرود فعصف به ووقع بكلية جثمانه فوقه ورام يَطحنه ولكنه امتَلخَ نَفسه من تحته ونهض إلى
مِشعاب أو حربة فَشَدَّخَ أنف البعير ثم أَنهَضَه وتَعَلاَّه ثانية وراح يعدو كالظَّليم,
قوة هائلة، كيان هائل، ومرونة هائلة، يقابلها عقل مهول، وروح طموح، وفكر هائل ومرونة هائلة أخرى وتماسك هائل, وهذا هو الإبداع!!،
وهذه هي الجداريَّة الفَذَّة في شَكلها ومضمونها؟!،
وليس بخاف أن مرونته المتواشجة مع القوة هي التي جعلته يقهر بعيراً مجنوناً وليس بخاف أن مثل هذه المرونة هي (القطب) لكل إبداع، في أي حقل كان,
كان يقوم مع الفجر الأول ويتعبَّد ولا يصل الفجر الثاني إلى رجَّته الأخيرة إلا وقد أنجز صلاته كاملة ثم مضى ساعياً مع مضي أول قذيفة من حليب الفجر
المزرورق بشهوة الحياة للحياة، وهكذا هو دوماً مع الفجر في الحل والترحال,
أما إذا كان في سفرٍ طويلٍ وأجمل أسفاره يوم رحيله في العام 1343ه إلى مكة المكرمة وعلى ظهور الجمال فكانت له صيحة صباحية عالية (تَوكلوا على الله) وبعد
هذه الصيحة بنصف الساعة تكون الخيامُ قد قُوِّضَت وَحُمِّلت الأحمال، وجميع رجالات الرايات جاهزون، وتجيء الصيحة الثانية (اركب يا عبدالرحمن، إركب يا ابن
مطرف) فإذا ركب عبدالرحمن بن مطرف ركب القوم بأعلامهم في مقدمة الركب، وبعدها بخمس دقائق يركب ابن سعود (ويكون في منتصف الركب والناس مَيمَنةً ومَيسرةً
وظهيرين وسَاقَة، وفي الحاشية العدد الوافر من الأدلاء والعارفين بالقيافة والرِّيافة) ثم لا تكاد تمضي ربع ساعة حتى تجيء الصيحة الثالثة (يا ابن الشيخ،
يا ابن الشيخ) وترى ابن الشيخ قد أتى هَمِيماً وأخذ يتلو طائفة من الذكر الحكيم حتى يُسفِر الفجر الثاني فيتوقف وينفرد بنفسه ويتلو حزباً له فيه أدعية
مأثورة ويفعل مثله كثيرون، ويدوم ذلك حتى تطلع الشمس,
أما الصيحة الرابعة (المضَحَّى) ومعنى ذلك أنهم يُنيخُونَ أَباعرهم من أجل (الطعام/ الإفطار) ووقته بالضبط (الثامنة) صباحاً بالتوقيت الزوالي و(الثانية) ،
بالتوقيت الغروبي، ومدة (المضحى) نصف ساعة فقط ثم يفزعون إلى ظهور الأباعر ويُدَفلجون وتأتيهم الصيحة الخامسة (ياابن الشيخ) ويأتي ابن الشيخ على ناقته وقد
أخذ بزمامها خادم مخصوص فيدنو ويتناول من حقيبته (صحيح مُسلم) فيقرأ منه قطعة، ثم يأخذ (تأريخ ابن الأثير) ويقرأ منه موضوعاً، ثم يأخذ في (السيرة النبوية) ،
لابن هشام ويقرأ منه ما يناسب الحال حتى تحكم الساعة وقت العاشرة فيتوقف إن كان الوقت مناسباً للنزول أو يجىء من بعده صاحب (الجرايد) وفي الحادية عشرة
يُنيخون ويَنصِبون خيامهم ويأكلون ما عندهم من التمر أو الأقط ويشربون الحليب الطيب ثم ينصرف كل واحد إلى خيمته من أجل الراحة ولا يجتمعون إلا في العصر
للصلاة ثم يهبُّون بعدها إلى ظهور المطايا وتُجَلجِلُ الصيحة الخامسة ليأتي (ابن الشيخ) ليتَنَاول من حقيبة كتاب (التَّرهيب والتَّرغيب) فإذا قرأ
الميسور منه تناول كتاب (آداب ابن مفلح) حتى يقترب وقت المغرب فيخلو عبدالعزيز بنفسه ليقرأ في حزبه حتى يحين وقت الصلاة فينزل الجميع للصلاة (جمعاً) ،
وبعدها يسود السكون برهة من الزمن من أجل الراحة وشُرب القهوة ثم ينهضون إلى المطايا ويأخذون في أحاديث شتى حتى يدلج الليل بعد العاشرة (تقريباً) وها نحن
هنا عند الصيحة الخاصة ب(الشيخ عبدالرحمن العُجَيري) فتراه يقفز من بين الصفوف ويُسلِّم ويصلي على الرسول المصطفى ثم يأخذ في قراءة مختاراته من فنون
الأدب والسير والتأريخ وأخبار العرب من جاهليين وإسلاميين ومخضرمين ومولدين ومحدثين، فتراه كلما أَدلج تَجدَّد كأنه يمشي على بساط باذخ من الكلام المنظوم
في خطوط وأشكال وألوان بديعة، وخذ ما شئت من جماليات التنوع والتَّعدد والتشابك, وخذ ما شئت من جماليات المرونة السَّيَّالة في وصل الكلام بالكلام، وفي
تصويره للأحداث وكأنها تخرج من جدار لتدخل في جدار ثم يهيم في أودية القول ورياضه وأفانينه حتى يخيل للآخرين أن الليل قد سكر من خندريسه أو أنه خرج عن
طوره وأدخل النشيد في ديوان آخر، من سالف الدهور الأسطورية,
تمعَّن في جدارية ابن سعود الزمكانية وتأمَّل كيف هو لا يدع البتة مكاناً صغيرا لكي يدخل إلى نفسه أو إلى شعبه أي هواء فاسد، تأمل كيف هو يتنقل في أحواله
ولا يدع مجالاً للملل أو الإجهاد أو الغفلة أو الوهن لكي يدب إليه ولو من بعيد,
كان حاد النظرات، كأنه العربدِّي في مغارة دهرية، وكأن جسمه آلة متواشجة كل التواشج بهذه الروح اللألاءة اللاهبة كأنها وإياه الفجر في آخر شهقة تومض مثل
الجمر في الليلة القَرَّة,
،* * *
حاشية ذات أهمية قصوى
وصلتني يوم الأحد الماضي رسالة ذات أهمية قصوى من مدير مكتب صاحب السمو الملكي الأمير طلال بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود ومضمونها ينفي وجود شعر
للملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - وهي طويلة ستنشر في الأسبوع القادم في نفس مكان هذه الزاوية، ولي حيالها إيضاحات مناسبة، فإلى الثلاثاء القادم إن شاء
الله، شاكرين ومقدرين اهتمام سموه الكريم وتصحيحاته, مع الإحاطة بأنني تأخرت قليلاً لاعطاء الموضوع ما يستحقه من المنهجية,
عبدالله نور


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved