علاّمة المدينة وشيخ قضاتها الشيخ محمد التركي!،
قيل لعبد العزيز: إن هذا الشيخ لا يزور الملوك والسلاطين والأمراء في دواوينهم، ولا في قصورهم، ولا يتولى لهم أي عمل كبير أو صغير، ولا يقبل أعطياتهم
وجراياهم وهباتهم، فعنده بعض عقار يعيش من كرائه على من يطمئن إلى صلاحه، ثم إن هذا هو ديدنه مع كل من حكم المدينة مهما كانت سطوته وصولته ومهما تعاظمت
فيه حنكة الترهيب أو الترغيب، سواءً كان من الأتراك أم الأشراف، ولا تنفع فيه المصابرة والحيلة فإنه لا يزيد إلا صلابة في دربه الذي اختطَّه لنفسه ولا
يحيد عنه ولا يريد غيره بأي حال كانت أو تكون!,
ولم يكن عبد العزيز يريد من أهل المدينة كل هذه التفاصيل التي قيلت له عن الشيخ التركي، لأنه كان يسأل عن الشيخ سؤال العالم الخبير بأرومة الشيخ ومعدنه
وفضله وزهده وعلمه، كان يسأل ليعرف ما عند أهل المدينة مما لا يعرفه أهل المدينة، فلما أجابوه عرف سبرهم ومقدار عرفانهم فسكت بعد سؤاله سكوت السائل
المطمئن إلى وثوق رأيه الذي لا رأي قبله ولا بعده، ولم يظهر منه برم ولا ضيق ولا بادرة تدل على خبيئة يكنّها في صدره على الشيخ التركي حتى إذا انقضى الحفل
الكبير ولم يبق إلا ما عساه قد جال في الأذهان من مرجِّمات الظنون فيما صار ويصير وإذا هم يتحسَّبون لكل شيء إلا أن يحسبوا لهذه الصيحة الجهيرة الهادرة
تنطلق من عبد العزيز مثل هزيم الرعد ولم يفهموا من عبد العزيز غير آخر ما سمعوه وهو ينادي بصوت جهير على بعض رجاله، وإذا هم بين يديه وقد فار وتأجج وانطلق
وهو يقول: ياالله، يا الله، هيا بنا يا رجاجيل نمشي على رجلينا للشيخ الوالد، الشيخ التركي هو في مقام الوالد، وهو الذي له الحق للعنوة من أجل السلام
عليه، حنّا الحكام مجبورون ومجبولون على العنوة لمن هو مثل الشيخ التركي، حنّا ما لنا حق في سلامه علينا، والمطلوب إن الحق له من أول وتالي,
وانطلق مثل ذئب خارق لفلاة، منتصباً كأشجار الحفر يتصبّب كالسَّيل بين أشجار الأراك، وكان السائرون وهم يصدفونه ملاقيهم يتطايرون عن دربه كأنهم صخور
متطايرة تحت أقدام فيلق من الخيل، وكانت عيونهم مثلهم متطايرة حتى أدرك مسمعهم صوت عبد العزيز وهو يطرق باب البيت الذي يقطن فيه الشيخ المفضال,
لم يجرؤ أحد أن يتوقف أو يتطفل لينظر ما يحدث سوى أنهم أبصروا عبد العزيز و الشيخ حين فتح له وقد اعتنقا مثل حبيبين بدا وجه كل واحد منهما للآخر على حين
غرّة بعد يأس متطاول كاد يتطاير بالشوق كندف القطن المتهايل؟!،
إذن هكذا يا عبد العزيز بن سعود!! تسألنا عن التركي وأنت أعلم بحاله منا,,
إذن هكذا ياشيخنا التركي!! تريد حاكماً كعبد العزيز بن سعود فتعتنق به كأسرع من عقاب ممطورة حطَّت على مسبار، إذن هكذا، دلف عبد العزيز بيت الشيخ وصكَّ
الباب ولم يدخل معه أحد، حتى حرّاسه صرفهم عنه في أول الزقاق!,
إذن هكذا صار عبد العزيز وصار الشيخ كأنهما رملٌ نديٍّ متهايل لا تسمع له نأمة حس ولا رِسٍّ، وانقطعت السابلة ونام الناس وهجد كل حي وفي الصباح صار أهل
المدينة على جَليَّة الخبر,
ترجع العلاقة بين الشيخ التركي وبين عبد العزيز إلى عهد متقادم في تأريخ الدولة السعودية الأولى: فقد كان جدُّ الشيخ التركي العالم المشهور الشيخ حميدان
بن تركي الخالدي من أفاضل علماء عنيزة الذين أسهموا في مناصرة الدعوة السلفية التي حمل لواءها أئمة آل سعود مع الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب - يرحمهم
الله - وكانت وفاة هذا الجدّ التركي في سنة 1203ه بالمدينة حين جاور بها في أواخر عمره ومات بعده بعام الشيخ ابن عبد الوهاب سنة 1204ه وكل آل التركي
بالقصيم وكذلك الشيخ محمد الذي زاره الملك عبد العزيز من نسل ذلك الجدّ القديم ويمشون على منهاج السلف الصالح ويسهمون في حمل لواء الدعوة السلفية حتى قضى
الله لهم بالذي قضى، وتعاقبت أحداث كلها معلومة وحدث أن تعثرت دولة آل سعود فهبّ عبد العزيز من جديد وأعاد بناءها ودخل المدينة المنورة بعد أن ضمّها إلى
دولته وقابل هذا الشيخ على هذه الصورة المرسومة دون أن يكون أي واحد منهما قد قابل الآخر أو خطط أن يقابله على هذه الحال, اللهمّ إن كلا الرجلين يسمع
بأخبار أحوالهما مما هو مكتوب في سطور الكتب ويجري على ألسنة الأجواد,
هذا، لعمرو أبيك هو السؤدد، هذا وعمرأبيك هو عبد العزيز، كان يعرف أخبار الشيخ التركي وهولا يزال في الكويت فلما دخل المدينة كان يعرف الشيخ أكثر مما
يعرفه أهل المدينة، وكان يسأل سؤال العارف ليرى من الجاهل مقدار تعالمه وليس مقدار علمه، فالعالم لا يتعالم ولكن يتعلَّم قبل أن يُعلِّم,
هذا لعمرو أبيك هو الشرف المؤثل حين يتناقله الأحفاد عن آبائهم وأجدادهم يداً بيدٍ، ومحبة لمحبة، وولاءً لولاء يمشي في العروق لينبع ويصبّ في شريان ولينبع
ويصب في وريد ويعرف الأولاد رسوم الأجداد في وسوم الطباع الكريمة وليس في الرموس والدروس، كل هذا لم يفهمه أهل المدينة إلا بعد أن غادر الملك عبد العزيز
طيبة الطيبة وقامت المملكة العربية السعودية وتولى الشيخ التركي قضاء المدينة على أن يكون راتبه من دخل البريد، وأكثر أهل المدينة الآن لا يعلمون أن معالي
الدكتور منصور التركي مدير جامعة الملك سعود الأسبق هو ولد ذلك الشيخ، بل وأكثر أهل المملكة لا يعلمون كيف أقنع الملك عبد العزيز الشيخ التركي بتولّي
القضاء، ولا أظن أن هناك من يعلم كيف كان أولئك العظماء لا يؤمنون بعلم النجوم والتنجيم، وإنما كانت النجوم وعلوم التنجيم هي التي تقول لهم: آمين لأن
آمينهم من عقل الكون وضميره، ومن قلب المحبة والإخلاص لخالق الملكوت, هذا وعمرو أبيك عبد العزيز ,, مملكة من حلم، ومملكة من أحلام ,, فردوسية كبرى ,,