في ذكرى أمير الشعراء أحمد شوقي
وسط الصخب الذي تثيره التيارات الشعرية الحديثة بتمردها وخروجها عن السياق ودعم النقاد للحركات الشعرية التجريبية التي آثرت الانفلات من قيود الايقاع
ومنطقية اللغة وتقاليد الشعر العربي عبر عصوره المختلفة,, وسط كل هذا تطل علينا ذكرى أمير الشعراء أحمد شوقي الذي ولد في السادس عشر من اكتوبر عام 1870
لتقدم لنا الهاما في الرؤية ونموذجا للإبداع وطرقا للبعث وأساليب للتجديد,, ولا شك أن صورة الماضي لا تصلح مطلقا وبخاصة في مجال الإبداع الشعري معيارا لما
ينبغي أن تكون عليه صورة هذا الإبداع في الحاضر والمستقبل, فالشعر مغامرة متدفقة متجاوزة ذاتها على الدوام, ولكن تأمل تجربة شوقي تساعدنا في تصحيح صورة
الماضي في عقولنا كما تساعد الحاضر على الاتساق والتوازن والتواصل مع الحلقات السابقة من هذا الفن العظيم, وتأمل تجربة شوقي في ذكراه حق لهذا الشاعر
العظيم الذي غمرته طيوف النسيان في بعض جوانب المشهد الثقافي وفي غمرة حمى تدافع الأجيال,, فإن شعر شوقي لا يجد ما يستحقه من عناية ومعاودة وإعادة تقديم
للأجيال في صور متنوعة هي نفسها الصور التي أبدعها شوقي في مجال الدراما والشعر الغنائي وشعر الأطفال,, والأمم المتحضرة تعيد النظر إلى تراث عظمائها في
ضوء عصورها فتقدم أعمالهم بأساليب تناسب هذه العصور لمحاولة تفسير هذه الأعمال على ضوء التطور الذي لحق بالفنون الدرامية والدراسات النقدية والعناصر
الجمالية كما يفعل الإنجيز مع شكسبير والألمان مع جوتة والهنود مع طاغور والروس مع تولستوي,
ولا شك أن أعمال شوقي ما زالت تدرس كنصوص شعرية نموذجية في مراحل التعليم المختلفة، وهو بعطائه الغزير في ألوان الشعر الكثيرة يفرض حضوره الأدبي كما أن
شعره قد ارتبط ارتباطا عميقا بتطور الحركة الوطنية وإنجازاتها وإنكساراتها فيبقى شعر شوقي جزءا من تاريخ مصر المعاصر, والنظر في هذا الشعر يعكس الكثير من
حقائق الوطنية المصرية وتقلبات الأحوال الوطنية منذ ثورة عرابي عام 1882وحتى وفاة شوقي في اكتوبر 1932, لقد جاء شوقي بعد أن نهض محمود سامي البارودي
بالشعر العربي وأيقظه من مرقده في غياهب القرون الوسطى حيث الركاكة وشيوع المحسنات البديعية وانحطاط الأغراض وتفاهة الأدوار التي كان يلعبها الشعر في تلك
الفترة المظلمة خصوصاً فترة الاحتلال العثماني لمصر,
ويمكن أن نطلق على الدور الذي قام به البارودي لقب دور البعث القوي الطموح الذي جسد موهبة البارودي وثقافته وعصره ثم جاء شوقي ليضطلع بدور أكبر أو لنقله
ثلاثة أدوار هي استكمال دور البعث الذي قام به البارودي من خلال عودة الروح للقصيدة وكانت هذه الروح مفعمة بعبق القصيدة الأموية في الغزل والعباسية في
الحكمة والوصف والدور الثاني هو الاحياء الذي يتجاوز فكرة البعث التي تنطوي على مجرد اليقظة الشعرية والخروج من أحشاء الماضي إلى مراجعة اوسع للقيم
الشعرية على ضوء الواقع الذي عاصره شوقي وهو واقع كان متفجرا على المستوى السياسي والفكري والأدبي,, وكانت حركة الصدام مع الغرب قد أكملت دورتها في القرن
التاسع عشر الذي بدأ بصدام مع الغرب متمثلا في الحملة الفرنسية وانتهى بصدام مع الغرب متمثلا في غزو سافر واحتلال بغيض من جانب انجلترا بعد فشل الثورة
العرابية كما كانت النهضة التي حاول الخديوي اسماعيل أن يقيم دعائمها قد أخمدت بعد أن دفعت برياح جديدة في شراع الحركة الوطنية فتدفقت بعض الأفكار الجديدة
على مستوى الفكر الديني عند جمال الدين الأفغاني ثم محمد عبده والتحمت الوطنية الثقافية عند عبدالله النديم وإمتلأت الساحة الثقافية المصرية بعناصر من
المثقفين اللبنانيين الذين كان لهم دور بارز في تطور الصحافة والمسرح أما الدور الثالث الذي قام به شوقي فهو التجديد ليس في معمار القصيدة على وجه الخصوص
وإنما في إنشاء ألوان جديدة من الأدب لم تكن في صميم التراث الشعري العربي مثل المسرحية الشعرية والأمثولات الشعرية في أدب الأطفال وكان هذا التجديد نتاج
تأثير مباشر بما شاهده شوقي في فرنسا التي ذهب اليها في عام 1890 في بعثة على نفقة الخديوي توفيق ليكمل دراسته في الحقوق وهناك غمرته المؤثرات الثقافية
الفرنسية حيث قرأ كبار الشعراء وعلى رأسهم فيكتور هيجو وعاد شوقي من فرنسا في نوفمبر 1893 وقد امتلأت روحه بالطموح ليبدع شعرا تردده الأزمان,, ويشارك شوقي
بشعره في المحافل الدولية فتوفِده الحكومة المصرية معبرا عن مصر في سنة 1896 ممثلا لها في مؤتمر المستشرقين بسويسرا حيث ألقى قصيدة كبار الحوادث في وادي
النيل وهي قصيدة تجمع بين الحس التاريخي والوصف للطبيعة المصرية وتجسيد روح الوطنية المتوثبة,, وقد انخرط شوقي بسبب علاقته القوية بحكام مصر بكل ما يخص
القومية المصرية وأصبح شعره يمثل ملمحا كاشفا وسط التيارات السياسية والوطنية المعاصرة إلى أن حسب في الجانب الذي يقف فيه الخديوي عباس حلمي الثاني في
تعاطفه مع الخلافة العثمانية في مواجهة السلطة الاستعمارية البريطانية ونفي شوقي إلى اسبانيا في عام 1915 وبقي أربع سنوات عاد بعدها في عام 1919,
وقد انتقل شعره ووجدانه ليكون مرتبطا بروح الشعب المصري وآلامه وأحلامه ويقول الدكتور طه وادي في كتابه (شعر شوقي الغنائي والمسرحي): يكاد ينفرد شوقي بين
شعراء الأدب العربي الحديث بأنه (ظاهرة) فريدة لا بما في شعره من سمات فنية فحسب وإنما ايضا بتأثيره الشديد على كثير من شعراء الوطن العربي وبما أثار هذا
الشعر من جدل وحوار بين الخصوم والأنصار ,, لقد عاد شوقي بعد ان صقله المنفى فجاءت قصائده التي كتبها في فترة المنفى مفعمة بالشوق للوطن وكاشفة لعمق الصلة
بين شوقي وربوع مصر وطبيعتها وشعبها، وكأن فترة المنفى لم تكن سوى اختبار للشخصية الحقيقية التي ينطوي عليها شوقي الشاعر والإنسان,
لهذا تجلى عمق إحساسه بما يعانيه الشعب المصري الذي خرج للقائه في الاسكندرية في احتفال يعبر عن اعتزاز هذا الشعب بمن يدافع عنه ويتعاطف معه, وقال شوقي
بعد عودته هذه القصيدة التي ألقاها في دار الاوبرا عام 1920
انادي الرسم لو ملك الجوابا
وأجزيه بدمعي لو أثابا
وقل لحقه العبرات تجري
وان كانت سواد القلب ذابا
سبقن مقبلات الترب عني
وأدين التحية والخطابا
نثرت الدمع في الدمن البوالي
كنظمي في كواعبها الشبابا
وقفت بها كما شاءت وشاؤوا
وقوفا علم الصبر الذهابا
لها حق وللأحباب حق
رشفت وصالهم فيها حبابا
ومن شكر المناجم محسنات
إذا التبر انجلى شكر الترابا
وبين جواني وافٍ ألوفٌ
اذا لمح الديار مضى وتابا
رأى ميل الزمان بها فكانت
على الايام صحبته عجابا
فياوطني لقيتك بعد يأس
كأني قد لقيت بك الشبابا
وكل مسافر سيئوب يوما
إذا رزق السلامة والإيابا
هدانا ضوء ثغرك من ثلاث
كما تهدي المنورة الركابا
فصفحا للزمان لصبح يوم
به ضحى الزمان إليَّ ثابا
وحيا الله فتياناً سماحا
كسوا عطفيَّ من فخرٍ ثيابا
هكذا عاش شوقي عظيما بموهبته وشعره وانحيازه إلى شعبه,
محمد إبراهيم أبوسنة
القاهرة


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved