يكون تعريف الحلم بأنه (العفو عند المقدرة) مطابقا للقصص التي حكاها الاقدمون عن قيس وعن أحنف قيس وعن آخرين مشهورين بالحلم كذلك، وانا اظن ان الملك
عبدالعزيز يعفو عند المقدرة، ويزيد فوق ذلك بالحسن وبالاحسان ويزيد فوق ذلك بأن عفوه يتجاوز مفهوم الحلم السياسي كما نرى عند معاوية بن ابي سفيان، ويزيد
فوق الجميع بأن الحلم في طبعه سجية حقيقية راسخة في اعماق النسوغ والخلايا وصميم العظم والأرومة,
كان قيس بن عاصم يكذب ويواثب كل من ينكر عليه او يحاول ان ينكر عليه, وسكر مرة وثاور النجوم وطاش وحنث في يمين له فانتقض حلمه,
اما الأحنف (احنف قيس) فكان لا يخفى على بعض صاغيته انه يتجرع غيظه ليداري ما هو اشد منه ونسب اليه قوله (لست بحليم ولكني اتحلّم) وقوله: (رب غيظ تجرعته
خوفا مما هو اشد منه) وهناك في سيرته ما يدل على انه من ارباب (الحلم السياسي) وهو كما نرى فضيلة معروفة عند السياسيين ولكنه ليس بذاك الحلم المؤسس على
ارومة الانسان والقائم في صلب كيانه وبنيانه، ونحن بدون مكابرة او مماراة نزعم ان عبدالعزيز يتجاوز في طبيعته كرجل حليم ما نحن وجدناه عند قيس أو احنف
قيس، او معاوية، ونحن ايضا لا ننكر ان في اخلاقه ما يدخل في باب الحلم السياسي ولكن هناك ما يتجاوز هذا الباب كثيرا جدا,, ليس في سيرة ابن سعود ما ينقض
من حلمه البتة، فلم يكن يكذب او يغدر او ينتقص من الخصوم او يتدلى إلى اذلال المهزوم او المخذول او المناوىء المسرف في اللجاجة والخصومة، وكان يقول لمن
ينضم اليه من رجال الدويلات المفتوحة، كان يقول: (من ثبت مع معازيبه الاولين يثبت معنا يالتالين) وكان يقول: (من انضم بسهولة تخلى بسهولة) ويقول: (من وفى
مع الاول يفي مع الثاني) ويقول: (من خان لك خان بك),،
وفي الوثائق المنشورة تجده عندما يمر على ذكر خصومه (اشراف مكة يقول: (اما اشراف مكة فالله ربي وربهم) وكان فوق ذلك كله يعطيك من رحابة صدره ما يسمو بك
الى ارقى ما تقدر عليه من الفضائل,
روى دابان عن بعض الثقات ان ابن سعود، كان مع بعض رجاله في ناحية من النواحي فأدرك بصره اعرابياً من جفاة البدو وهو على ذلول حسنة، وثياب نظيفة فناداه
وصاح به قائلا: يا ولد، يا ولد، فأُجيب على ندائه بما يؤكد جفاء صاحبه
،- هه، وش تَبا
،- يا ولد، هل تدري من هو انا؟؟
،- الله الله، انت ابن سعود
،- اسألك بالله يا ولد انت تحبني او تكرهني؟!،
،- فأجابه الاعرابي وهو رخي البال قائلا:
،- واله اني ما أحبك، ووالله اني ما اكرهك!!،
،- وليه ما تحبني وليه ما تكرهني؟!،
،- اجابه البدي وهو مطمئن النفس
،- ما احبك لانك قطعت ارزاقنا يوم انا نسرق الحاج وهو مصدر رزقنا، وما اكرهك من حيث انك خليتنا آمنين وفي امن وفي امان, والله ان شاء الله يجىء بالرزق
الحلال؟!،
هذا قول بدوي صادق، وكان عبدالعزيز يحب الصدق ويثيب عليه وكان في حلمه يستوعب احلام مواطنيه اي يستوعب القدرات العقلية والفطرية والمكتسبة، والمواهب
القابلة للنمو والتطور والتحضر ايضا، مثلما هو يستوعب الطاقات النائمة، او الخاملة، او المنتكسة، او المرتكسة؟!،
وماذاك الا لأن الحلم في حقيقة معناه ومبناه هو في الحق مملكة كبرى للعقل البشري الاول، انه الجوهر الصافي للانسان في بدايته ونهايته وصيرورته الدائبة نحو
مثاله الاعلى ومثله العليا وفردوسه المفقود,,
المعروف ان الملك عبدالعزيز بعد انتصاره في معركة (السبلة) كان في غاية الكرم حين امر جنوده بكف الملاحقة لخصومه المنهزمين, والمعروف انه جيء اليه بالدويش
محمولا على ايدي نسوته مستجيرات بعبدالعزيز وحاثيات على رؤوسهن ما لديهن من أسباب الندم والاسترحام، والمعروف انه -قدس الله روحه- لم يتلكأ، ولم يتلجلج،
بل عفا واصلح وعندئذ دهش الدويش وراح يصيح وهو يمد يده ليطلب من عبدالعزيز مبايعته على التوبة والعهد الوثيق الصادق على الولاء والبراء والإخلاص,,
والمعروف ان عبدالعزيز وهو صاحب الفراسة الخارقة والعقل الكبير الذي يستشرف الحجب ويطوي الآماد ويخترق الامكنة والازمنة، المعروف انه لم يمد يده اليه ولم
يزد على قوله: نشوف ان شاء الله,
طبعا، بقية القصة معروفة، وخان الدويش، وكان ابن سعود يقدر على تركه أباديد شماطيط تحت عصف القنابل الساحقة المنهمرة من طائرات (الانجليز)؟!،
كان يقدر على ذلك ولكنه ابن سعود جاء لينقذ الدويش من الانجليز ولينقذ الدويش من جهله ولينقذ الدويش من الضلال الذي مَرَدَ عليه وصار في اصل طبعه ظلمات
فوقها ظلمات وحين جىء به اليه لم يزد على تذكيره بذلك اليوم الذي مد فيه الدويش ليبايع فكف هو يده لأنه يعلم ان الدويش لا يقوى على رقي مثل هذه الدرجات في
سلالم الحلم وفي مدارج الاحلام,
ان الحلم هو (الشفرة الخاصة) لفهم شخصية ابن سعود، وهو (القطب) الذي تنجرّ في مداراته بقية الفضائل والقيم الاخرى، ولئن كان الحلم هو (سيد الاخلاق)، فلاشك
ان ابن سعود (سيد الحلماء),, ودع عنك قيسا، ودع عنك الاحنف وما بعد الاحنف، وفاخر بمثل هذا الطّرِمّاح تربت يداك,