إيحاءات التحول في مجموعة (أسماء وحرقة الأسئلة) للشاعر صالح الحربي
غالية خوجة
،(رائحة
تفوح من جلد الشجر
تتطاير
تصبح ناراً سرمدية
حمالة الحطب
تصرخ
اشتعلي
اشتعلي,,,)،
تجسيد المجد بصورة تختلف عن تحولهاالمتأنسن (رائحة = هواء/ جلد الشجر= الانسان) وذلك في محاولة للاقتراب من العلاقة الموجودة لاحقاً من تلك العناصر
وهيئاتها المتغيرة والتي اعتبرها الشاعر مرتكزاً لإمكانية الفعل الخلقي المتميز بالحركة المتسارعة للرمز الناري نحو الولادة,
،(لهيب النار
يتكور
تتمزق المشيمة
يتدحرج
عصفور أخضر
ملبد بالدماء)،
ضمن هذا المدار يستمر الحضور السوريالي في النص راسماً اتجاهاته الكبرى داخل جدلية الموت والحياة وجهات الزمن:
،(يلتفت يميناً
يلتفت يساراً
لايرى إلا النار,,)،
تتأسس طبيعة الصراع على الايحاء المزدوج للنار:
،1- ولادة عصفور أخضر ملبد بالدماء:ولا يخفى ما في ذلك من إحالة إلى ارتباط الأخضر بالشجر ورائحته وجلده، أي، بالأرض وخصبها اضافة الى لونية اكتسبها فضاء
النار الذي أنجب ذلك العصفور، بما في ذلك من دلالة على منحه حق الطيران والتحليق المرتبط بالحرية والمخيلة والرمز المولود,
،2- الموت: وهو موت الزمن الذي التهمته النار فجعلت منه حركة اشتعالية تمد نسفها بزمنية القصيدة الراغبة بالتصاعد وبالحضور التحولي الأشد انبثاقاً وتجريداً:
،(حمالة الحطب
ترى,,
ولا,, ترى
تقذف
الماضي
والآتي,
,,,
,,,
في النار
تصرخ
اشتعلي
اشتعلي,,,)،
لقد شكل الاشتعال حركة دافعة للبحث والكشف عن (أنا) الشاعر المتحولة من خلال (أناه) الثابتة، المستغرقة في رمزه المحوري (النار) وانقلابات ضوء الصراع حيث
نستشف صوتيات الغياب المنتشرة بين حركتي الايحاء (الولادة/ الموت) مكونة دينامياً مرافقاً للحلول المزدوجة، عمق اشارات الدلالة المنقلبة أولاً: (العصفور
الأخضر يتشظى، ينصهر) والمتحدة بالرمز ثانيا: (كأنه حامل حطبا,,),,
أما ناتج الانقلاب والاتحاد فهو علامات الامتداد المتكورة بعد مسارات الفعل (يوقده) والطائفة حول ثلاثية المراسيم كابتداء وعلاقة مع الآخر وكانتهاء، عبر
عنها على التوالي المنحنى الدائري المتكامل حتى الانغلاق في الصورة: (يتجول حول مراسيم الولادة، حول,, مراسيم العادات والتقاليد,,، حول,, مراسيم الموت) ،
ويترك الشاعر سطرين منقطين بعد هذا المنحنى هادفاً الاشارة الى الصمت والحركة والروح كظلالٍ متماوجة بعد الفناء تحث على التأمل وتعكس الطبيعة الرؤيوية
للشاعر الذي يعيد كيان الارتكاز الى لازمته (حمالة الحطب) ويبعد بذلك الانقسام السابق الى ساحة يتعارك فيها الصمت الداخلي مع صمته الخارجي، فيواصل الرمز
فعله باتجاه مناقض مستبدلٍ لأمريّة (اشتعلي) بأمرية (اخمدي) وذلك كنهوضٍ آخر يهيىء مزيج الانصهار والتناقض والصراع للابتداء المستمر ولبلورة الدلالة مع
حركة الروح الأبدية:
،(حمالة الحطب
تصرخ
بأعلى صوتها
اخمدي
اخمدي
اخمدي
فلتبدأ
الحياة من جديد,,,)،
وتتجول تكوينات الأعمال بين ايقاعات الشمولي وبين ايقاعات المفردة الحاملة لذاك التوهج المسرود بين الدهشة وعلائقها الدالة: (الغاردينيا الحزن الموت
الريح الليل المدينة القبيلة السجان الصوت الحب الدم,,),،
على تناغمات هذا المعادل انبنت عدة قصائد منها (ثلاثية الحزن) المتغلغلة إلى معناها الباطن من خلال رمزها الأول واستدراجات أبعاده الى الموت: (الغاردينيا
تنتحب/ لا ماء,, لا,, أوكسجين,, لا ضوء,, الغاردينيا,, تنتحر) وتكرار الاستدراج من خلال الرمز الثاني (الأنثى) وما يتوالى على هذاالرمز من ضغوطات مختلفة
ومايقوم به هذا الرمز موسعاً فاعليته الحياتية الرافضة لصدأ الزمن (صوتها آت من بعيد، ينفض غبار الزمن، حشرجة الصوت، تحطم قضبان الزنزانة، تغتال السجان) ،
ولايلبث هذا الصوت يأخذ حركته لينجز صورته المرتدة الى الرمز - الأنثى، وهذا ما تضمنه فعل (تسافر)العائد من خلال تقاسيم (صوتها) وصورته المرتدة الى ما
وراء حركة الفعل السفر: (تسافر، إلىمدن الموت، بلا عودة),،
وليظهر الشاعر إمكانية الارتداد الزمنية نجده يقارب بين (الموت/ الزنزانة/ الريح) محدداً بذلك وحدات الحزن النصي التركيبية المتنامية بين رموزه وعلاقاتها
وبين ذاته والذوات الأخرى من: لغة/ مجتمع/ طبيعة رؤيا,
،(تنحت الريح
في عظام جمجمتي
يحفر الزمن
في تضاريس جسدي,,)،
ربما تداعيات اللحظة أسهمت في الاقتراب من المباشرة (عظام جمجمتي)، ولأن للشاعر أن ينحرف بدلالات الواقع الى دلالاته، فإن له أن يخالف الأبعاد الأولى,,
لذلك لو استبدل (صالح الحربي) العظام,, وكل جمجمة عظام,, ب (بروق جمجمتي) أو (بحار جمجمتي) لتنازعت الرؤيا انزياحات الحلم,, ولخلقت توتراً متفاعلاً بين
الصور,
كذلك لو حذف الشاعر الاستطالة بين (الصهاريج) و (جرثومة في دمي) لأنها سببت هبوطاً أثر على أنساق الصورتين المختزلتين لعوامل النحت والحفر الخارجية،
والفاعلة في عوامل التفاعل الداخلية، تلك العوامل التي بدأت تستعيد تناميها بعد تعدد الحالة الجوانية وبعد انوجاد الذات في متطورها العلائقي:
،(تهافتت
مراسيم الاشتباه
تنداح
عناقيد الكلمات
جاء,,
الموت,,
متنكراً,,)،
تتميز المجموعة بتوليد طاقة دراماتيكية تستحضر اشعتها كحدث يستبدل رموزه وشبكة دلالاته ببنية تشتت مجهولها ثم تلمه في حركة خيالية متتابعة، لكنها غير
متشابهة، وذلك لتنجز ما تتكلمه اللغة خارج النص، أي في الصيروري المحتمل المطل علينا من داخل النص، ومن ذلك قصيدة (جدار الصمت) التي قربت مسافة حدثها حتى
تحايك النزيف على مخلوقاته، مبرزاً خلوه من (الزمن) كإيقاعٍ واقعي تحول الى ايقاع للصمت والقلب والصورة لا يلبث أن يتناسج على هيئة لوحةٍ غير مرئية، تدلنا
عليها صوتيات الافتراع الحاضرة ك (قصيدة) داخل القصيدة:
،(ينزف القلب
يطلى جدار الصمت بالدم
يتشقق هذا الجدار
تنبت منه قصيدة
كلماتها
ثلج ونار)،
ولم تخرج قصيدة (مدينة) عن تلك التناغمات الظلالية التي رسمت آثارها في معطيات الموقف الحياتي للشاعر ورؤيته ل (شوارع المدينة) التي (تغتال المارة، إلا
ذلك الزائر) ونجد العلاقة بين (المدينة) و (الليل) و (الزمن) تتكرر كصفات مرادفة ل (الموت) تفاعل سيرتها وتكمل اتجاهات الحسية المناقضة من خلال تعددية
النمو والرفض التي يفصح عنها الشاعر ضمن دلالات تفتح على كشف الواقع والابتعاد عنه الى القصيدة المتشكلة ضمن جراح مفخخة بالحلم، كانت بدورها المعبر الى
طبقات الصورة الأم المكثفة في الوجدانيات المتظاللة بين الاستفهام ومقاماته المتمرأية في قصيدة (اسماء وحرقة الأسئلة) حيث يتداخل القطب المرأة مع ملامح
،(الغيم/ المطر/ السماء/ الرحيل/ الياسمين/ الحلم/ الشمس)، ويغلب على هذا التداخل ظهور الأثر المضموني للحب الذي ينطوي على خطى بريق نابضة بين
الحيرةوالحيرة تتبع انسيابية الايماء المتراكمة في الصيغ غير الملتزمة بزمانيةأو مكانية معينة، لكنها المتماوجة بين شخصية الشاعر وانقلابات الصورة الغائمة
الى مكونات لوّنها الواقع بالتلاشي (الحب/ العشق، إنه ظل يتلاشى) وبالخيانة (ثمة حزن، عالق,, ثمة خيانة) وبالموت (لم يبق لنا، سوى هذه الحفرة، محدودة
العمق), وأيضاً انقلابات لونتها مكونات المخيلة بالقلق والحلم (كيف أدرك سر، وجع الياسمينة؟) / (أي حلم هذا الذي يعانق كف السماء) كما لونتها تلك الرغبة
المتناوبة لايقاع (الميم) الرامز الى (مريم) ورشوحات الطهر والبراءة والشعاع (إذن، خبئيني، ما بين الميم والميم يا مريم),،
،(امتطيت
صهوة القصيد
فتبعثرت الكلمات
لم تبق
إلا كلمة
هي أنت,,)،
لم تسر نصوص المجموعة داخل توتر تصاعدي، بل تلونت بتكرار لفظي ودلالي انشأ إرباكاً أضعف الومض المتصادم للصور الشعرية وللحالة المتداعية، ولم تخل المجموعة
من بعض المباشرة كقصيدة (ليلى (2)): (عندما نظرت إليك أول مرة عرفت، كيف أصيب، قيس بن الملوح بالجنون,,)لكن رغم هذا التأرجح، فإن الملفت هو ذاك التشويش
المغامر في فلسفة العمق المتحول ل (الأنا) الشاعرة والذي تجسده بصراعاته وتناميه وحلميته قصيدة (أمنية) التي حاولت سبر الزمن النصي من خلال زمن النور وقزح
الداخل الناهض من بياض الأنا اللامستقرة (أنا لست أنا) والمنسكب في اختلاس (الشمس كرمز زماني أبدي مضيء وأنثوي متمتع ببعدٍ أسطوري معكوس على الواقع) ،
اختلاس الشمس لدلالات (الأنا المحور) التالية ل (الأنا المنفية اللامعلومة السابقة,, أنا لست أنا,,) وكأن الذات الشاعرة تتمحور قرب الصمت المتناغم مع مركز
الكون المنبثق من خلال تزييغ (الأنا) عن ثباتها وتحقيق انحرافها الأبعد في الصورة الجملة:
،(بل هذه
الشمس
الآخذة
صورتي
وقت المغيب)،
لا يخفى ما تشتمله الأنساق الظلالية والضوئية، وما تكتمه بين (الشمس) و (وقت المغيب) من تنافر منسجم ومتبادل ومختزن لكل أطوار الحياة المنبثة في عملية
الانزياح (الشمس الآخذة صورتي) وانعكاسات صورة الأنا على الكلمة والفضاء والأرض,
وهكذا تندفع القوة المضمرة من بنية المعنى الى جسد المبنى، وذلك عبر اشتباكٍ حلمي يتألق في نقطة التقاء سمات الغياب (حدث شعري/ درامية/ قلق/ تشويش الحواس
الصورية المتسربة الى المتلقي,,) وينشطر هارباً من هذه الوشيجة العلائقية الى عناصر اخرى حملت حركتها باتجاه الأعلى وعزفت وقعها المشهدي السينمائي مثيرة
في حالتي القطع والوصل صوتيات الحضور المتجادلة فيمابينها وبين مسرحة الحسية، وانقلاباتها الى بوتقة واحدت ثنائية المجرد والمجسد وكونت وحدة المجموعة
وموسيقاها المتوازية مع السواد (الفضاء المكتوب) والمتجاوزة له، وذلك عندما استطاعت ان تشي بتصالب ايقاعي جمع فضاءه اللامكتوب مع موسيقا النبض والحزن
والشجر والريح والموت والحياة واللون والخصب والآتي,
إن مجموعة (أسماء وحرقة الأسئلة) لشاعرها (صالح الحربي) نصوص تكشف عن اشراقاتٍ عمقت شفافية الغائب وافصحت عن جمر الحلم وقلق الأسئلة واللغة والذات الممتدة
في الذوات الأخرى والمنعطفة من ذاتيتها الى العام الحياتي المغلول بغرابة الصمت وبسيرة الاضاءة المتمركزة خلف النصوص,
،(للشاعر وجه
وللمتلقي
ألف وجه
من ذا
الذي
يشد فمي,,؟؟)،
* * *
،* أسماءوحرقة الأسئلة مجموعة شعرية خامسة للشاعر (صالح الحربي) صادرة عن (دار الجديد)/ (ط 1) عام (1996) عدد الصفحات (104),،
،
،


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved