وأسرف في كل الضلالات حتى صار طُلبة الملك عبد العزيز قبل أية طُلبة يريدها في حياته,
جيء بهذا الرجل السَّفاح الفاتك، وكان عبد العزيز خارج الرياض يَستَروِحُ لبعض الوقت، وكان في العشية يصلي صلاة العشاء ويخلو لنفسه نُسَيئات يفرغ فيها
لنفسه ويطلب ربَّه ويستدبر ما فات من يومه ثم يستقبل ما يجيء في غده حتى إذا ما انتهى من هذا كله عرضوا عليه الرجل السَّفاح الفاتك وهو مُقًرَّن بالأصفاد
فبصر به شيخاً فانيا، مكوكب العينين، مقرقم الأجزاء، مقرقف الأعضاء قد تضعضع كل شلوفيه وتكأكأ بعضه على بعضه وصار كأنه جنين دجاجة في بيضة مارجة، وكان فوق
ذلك يبكي بكل جوارحه بكاء من لا يعتذر ولا يريد أن يعتذر فيصيب من الذنب ما يربو على ذنوب لا أولَّ لها ولا آخر,
كان شيخاً فانياً ليس فيه للسيف نَأمة عِرقٍ نابض، وقد بلغ من العمر أرذله وسكن فيه كل ما في الصحراء إذا هي أقشَعَّرت بالقحط والخوف والجوع والشقاء
والسُّعال حين يجرر الموتى ويكسح الصخور وتزعق من منظرها الغربان، وهذه هي الصحراء حين تفقد الأمان ولا تجود عليها السماء بالحليب ولو فيما يشبه الخيال
فيسكن الموت في الناس كما يسكن في هذا الشيخ الماثل أمام الملك عبد العزيز ومعه أولاده وهم أيضاً مأسورون بالأغلال وقد شاركوه في كل ضلالاته، وسيشاركونه
في المصير كما شاركوه في كل ضلالة واحدة بواحدة,
إن رؤية الموت في عيون الميت أهون بكثير من رؤيته في عيون شيخ هالك مثل هذا الشيخ؟! فهاهنا تبصر بالموت في لؤمه حين يركب على ظهر هذا الشيخ ويبلغ به إلى
أرذل العمر، وإلى أرذل حال، وإلى أرذل مستقبل إلى يوم فيه باب الجحيم في صورة درب طويل أوله جحيم وأعتابه جحيم وآخره جحيم، إنه الموت في أبشع صورة وقد
تلعَّب به بقدريَّة مرعبة لا تراها العين الواحدة، ولا العينان معاً، ولا تراها الجوارح أو الحواس أو الأعضاء بل تراها وتبصر بها الرُّوح الشَّفافة وهي
تخترق الحُجبَ والجدران والأماكن والأزمان لتلتحم بعالم الرؤى والنبوءات في فضاء الكون الشاسع وملكوته الواسع في الأفاق العلوية حيث لا تبلغُها الأبصار
ولا البصائر إلا بإلهام من ملك الملوك الواحد القَهَّار، وهكذا صار,
أمر الملك عبد العزيز بفك قيوده والإحسان إليه بالطَّعام والشراب وقص أظفاره وما تشوَّه من أطراف شعر رأسه، وإلباسه بلباس حسن فأخذوه وانصرف عبد العزيز
مطرقاً برأسه إلى الأرض، وما عَتِمَ أن تهللت أسارير وجهه وكان مغيظاً كل الغيظ، وما عتم أن تبسَّم عن ثغر وضاح يخلب القلوب والعقول وقال قَولةً لم تكن في
الحُسبان ولاسيما في تلك الأزمان,
لقد عفا عن الرجل، ولكنه لم يعف عن أولاده إذ أمر بحبسهم، وتولَّى بنفسه ومن ماله بدفع كل الدِّيات,
حقاًّ، إن الشفقة أرقى درجات الحب، وأن للشفقة موضعاً بين القيم لا يرقى إليه إلا ذوو البصيرة من الملهمين من رجالات الرؤى والنبوءات الخارقة، والحق
أيضاً، أن عبد العزيز قد رأى في ركام هذا الشيخ الفاني الهالك دمعة لامعة تومض من بعيد بشعاع يَهلّ بالحب الشفيف الذي دفنته رمال الصحرا وهي تَسِفُّ على
الأحياء بالموت الذي لا يقهره إلاَّ الحياة حين تنهض من أحشاء الأرض بالدماء الحارَّة الصاعدة إلى أعين النجوم وهامات الأشجار المقرورة الخائفه,,
بخٍ بخٍ، ذاك عبد العزيز,