في فضاء الكلمة
لغة النابغة
حمد العسعوس
ان مما يدل على تطور اللغة، وتغير مفرداتها وتراكيبها مع الزمن، ان تعود الى ديوان احد الشعراء الجاهليين,
فسوف تجد البون شاسعاً بين لغة شاعر جاهلي مثل: النابغة الذبياني وبين اللغة التي يستخدمها احد الشعراء المعاصرين في بناء النص الشعري,
وفي اثناء قراءتي في ديوان النابغة توقفت عند مفردات كثيرة,, وأحسست بأنني في حاجة الى قاموس لغوي لاستظهار معانيها ومدلولاتها,,
وأتذكر انني اثناء قراءتي لأشعار وقصائد بعض ابرز الشعراء الجاهليين اتوقف عند قليل من المفردات التي لا افهم معناها، لأنها اصبحت غير متداولة,
وهذا يدل على ان للنابغة منهجاً خاصاً، ولغة خاصة ينفرد بها عن غيره من شعراء العصر الجاهلي,
كما اعتقد ان هذا هو السر الذي يكمن وراء تميز هذا الشاعر الى الحد الذي اهّله الى ان يكون من امراء الشعر في عصره، والى ان تنتقل سمعته بين القبائل، والى
ان تنصب له قبة في سوق عكاظ فيحتكم اليه الشعراء، ويقضي بينهم، ويكون حكمه في الموازنة بين اشعارهم دقيقاً وصائباً ومقبولاً,
لقد نشأ هذا الشاعر الفحل في منازل قومه ذبيان، وكانت منازلهم بين الحجاز وتيماء، ولم يكتشف موهبته الشعرية الا بعد ان اصبح كهلاً,, حيث رحل الى النعمان
بن المنذر ملك الحيرة وأصبح شاعره الخاص ونديمه المفضل، الى ان وشى به حساده لدى الملك واتهموه بزوجته المتجرَّدة فتوعّده,, فلم يجد بُدّاً من الهرب
والعودة الى ديار قومه,
ثم اتصل بالغساسنة في الشام، ثم لم يلبث ان عاد الى ملك الحيرة,, بعد ان اعتذر اليه ونفى ما اشاعه عنه خصومه لدى الملك، وبعد ان تشفع عنده ببعض اصحابه من
فزارة فقبل النعمان شفاعتهم فيه، وأعاده الى منزلته السابقة لديه,
واسمه: زياد بن عمرو بن معاوية,, وانما لقب بالنابغة، لأنه نبغ على قومه بالشعر بعد ان اصبح كهلاً كما سبقت الاشارة الى ذلك,
وسوف استشهد ببعض ابيات من قصيدتين لهذا الشاعر، وذلك لتأكيد خصوصية اللغة التي كان يستخدمها، ومدى اغراقها في الغرابة، واعتمادها على الحوشي من الالفاظ,
قد تكون تلك اللغة سهلة ومستساغة ومتداولة في تلك المرحلة المتقدمة من مراحل الشعر العربي,
ولذلك لا يضيرها اننا لا نفهمها -الآن- كما ان موت تلك اللغة، واختفاء تلك المفردات من قاموسنا المعاصر,, لا يسوغ لنا العودة الى احيائها من جديد, بل
يكتفى بأن تبقى في ركن التراث، وأن ينساق الشعراء مع تيار اللغة المتجدد- دائماً وأبداً,
- يقول النابغة من قصيدة يمدح فيها النعمان بن المنذر ويعتذر اليه عما بلغه عنه في امر زوجته المتجرِّدة ,
،1- يا دار ميّة بالعلياء فالسندِ
اقوت وطال عليها سالف الابدِ
،2- وقفت فيها اصيلاناً اسائلها
عيّت جواباً وما بالرّبع من احدِ
،3- الاّ الأواري لأياً ما ابينها
والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلدِ
،4- ردّت عليه اقاصيه ولبّده
ضرب الوليدة بالمسحاة فالثأدِ
،5- خلت سبيل اتيِّ كان يحبسه
ورفّعته الى السجفين فالنضدِ
هذه الابيات هي الخمسة الابيات الاولى من القصيدة التي تبلغ تسعة وأربعين بيتاً، اسوقها كنموذج على كثرة الغريب والحوشي من الالفاظ في شعر القاضي والحكم
بين شعراء عصره النابغة الذبياني ,
ولو عدنا الى هذه الابيات الخمسة التي تمثل مطلع القصيدة لوجودنا العديد من المفردات التي تحتاج الى شرح وتفسير يضيء لنا النص، ويساعد على فهمه مثل:
العلياء: ما ارتفع من الارض,
السند: سند الجبل وهو ارتفاعه,
اقوت: خلت من الناس,
اصيلان: تصغير اصيل وهو العشي
الربع: منزل القوم
الاواري: مرابط الخيل
لأياً: اللأي هو البطء
النؤي: حاجز من تراب حول الخباء
المظلومة: الارض اذا جاءها السيل فملأها
الوليدة: الامة الشابة,
الثأد: المكان الندي او الرطب
الاتيّ: سيل يأتي من بلد الى بلد او مجرى الماء,
وهكذا لا نكاد نتجاوز بيتاً من ابيات القصيدة دون ان نجد مفردة او اكثر من هذه المفردات الغريبة,
- ويقول في مطلع قصيدة اخرى في الغرض نفسه
،1- عفا ذو حُسى من فرتني فالفوارع
فجنبا اريك، فالتلاع الدوافع
،2- فمجتمع الاشراج غيّر رسمها
مصايف مرت بعدنا ومرابع
,,وأكتفي بهذين البيتين لتأكيد ما واجهته من صعوبة في لغة النابغة الشعرية، بسبب اعتمادها على مفردات عفا عليها الزمن,
ولتأكيد تطور اللغة الواحدة من عصر الى عصر آخر، تبعاً لتطور اساليب الحياة وتغير وسائلها وأدواتها، وتبعاً لاتصالها باللغات والآداب الاخرى وتأثرها بها,


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved