،- انه مناسب تماما (مارثي) رد زوجها وسرور مريب يتخلل نبرات صوته وتابع: كدت أتهور فأقذف به جانبا اذ انه قد حرم من جميع ازراره على أني لاحظت ان فتحات
الازرار ذاتها كانت مهترئة، فقلت لنفسي :فلتولِّ غير مأسوف عليها,
،- آه,, حسناً - قالت زوجته بلا مبالاة - احكم ربطة عنقك وسنتكفل بأمر ذلك,
كانت مزرعة اغنام (سام ويبر) تقع في مكان قصي من البلدة بين (نيس) و(فريو) تحديدا اما منزلهم وهو مبنى عادي يحوي غرفتين فقد شيد على تل مرتفع وسط الروابي
العالية ولا يبعد مربى الاغنام عنهم كثيرا على ان الغابة الكثيفة لم تكن تبعد عن ذلك سوى بضع خطوات ,
كان سام يزمع التوجه الى مزرعة (تشابمان) لابتياع بعض الكباش الاسبانية الحسنة السلالة, وخرج اخيرا كيما يباشر مهمته التجارية العاجلة ولان تشابمان كانت
شبيهة ببلدة صغيرة مساحة وسكانا فقد قرر (سام) ان يرتدي زيا مناسبا لذلك فكانت النتيجة انه احال نفسه فجأة من فلاح رشيق بهي المنظر الى مخلوق لا يسر مرآه
من رآه ,, اذ ان الربطة البيضاء الضيقة عصرت عنقه البرونزية القوية اما القميص عديم الازرار فقد تكرش وبرزت ثناياه من تحت الصديرية المفتوحة بشكل يدعو الى
الرثاء فيما اخفت البدلة الجاهزة ملامح جسده العضلي الوسيم وبدا وجهه الذي لوّحته الشمس في كآبة سجين تملكه عنفوان الانفة وعزة النفس,
ومسح برفق على رأس ابنه (راندي) ذي الثلاث سنوات قبل ان يهرع الى حصانه المفضل (مكسيكو),،
وعلّمت (مارثي) مكان الصفحة بإصبعها فيما كانت تتأرجح بروية على كرسيها الهزاز ثم القت نظرة شاملة على زي زوجها الذي حاول في خضم العجلة ان يعربه فأعجمه -
او هو العكس - حتى بدا (منكوشا) عمت الفوضى كل ثنية فيه:
،- ان اردت الحق - قالت زوجته - انت تبدو ككومة قش لا كتاجر اغنام محترم من ولاية (تكساس),،
وامتطى (سام) جواده على نحو اخرق وقد تضاءلت - الى حد كبير - ثقته بنفسه ثم قال بغضب:
،- أنت الملومة,, وأنت من يتحتم عليه ان يخجل من نفسه! بدلا من الاعتناء بملابسي تجلسين في بلاهة منهية الرواية تلو الاخرة، لا همّ لك سوى القراءة اما ما
عدا ذلك من امور هامة فلا يعنيك البتة, تبّاً لك!،
،- اغلق فمك - صاحت به - وتوكل على الله - ما اكثر ما تشتكي من حبي للقراءة! انني اعمل لساعات طوال ولي الحق في مزاولة القراءة أنى شئت الا ترى اني اعيش
كالهوام في هذه البقعة النائية؟ - تابعت العويل - لا ارى أو اسمع او اجتمع بأحد ,, ليس لي من سلوى غير القراءة ازجي بها الوقت واقصي عبرها الملل,, اما
صوتك الهادر فهو سلسلة من الشكاوي التي لا تنقطع ليل نهار,, انطلق الى حال سبيلك بالله عليك ودعني وشأني!,
وهمز (سام) حصانه بركبتيه ثم انطلق به عبر الخط الذي احدثه مرور العربة في اديم المزرعة والذي يفضي الى الطريق الحكومي المعبد, كانت عقارب الساعة لمّا
تتجاوز الثامنة بعد لكن الحرارة كانت قد شرعت في غزو ذرات الفضاء بوميض لاهب ممض! ولام نفسه لعدم شروعه في السير منذ ثلاث ساعات اما مزرعة (تشابمان) فكانت
على بعد ثمانية عشر ميلا الا ان الطريق المعبدة لم تكن لتمتد لاكثر من ثلاثة اميال، أما الباقي فعقبة كأداء,
وكان (سام) قد توجه الى هناك مع احد رعاة البقر المهرة وبذا تمكن من رسم خارطة للموقع في ذاكرته,
وانتهى الطريق المعبد فأخذ (سام) بزمام جواده (مكسيكو) مخترقا نبات المسكيت) الشائك,, مجتازا غدير (كوينتانيلّا) منحدرا صوب الوادي الضيق المتعرج المزدان
بحلة خضراء قشيبة من النبات الشائك ذاته على ان (مكسيكو) كان قد اجتاز الاميال الثلاثة الاولى بخفة ورشاقة سنده في ذلك قوائم قوية، وما ان حاذى (سام) نبع
البطة البرية حتى تملكه الشك في المسار الذي يتعين عليه اتخاذه بعد ان انتهت ملامح الطريق المحددة، وصعد تلّاً صغيرا الى يمينه غطته الحصباء التي ما نما
فوقها سوى التين الشوكي، وهناك ,, في أعلى التل توقف (سام) كيما يمسح الموقع بنظرة فاحصة دارسة اخيرة اذ انه كان عليه ان يشق بعد ذلك طريقا ضيقة شائكة
متعرجة لا يصل اليها سوى بُلَغٍ من نور, تحتم ان يمتد في استكشاف سبيله على غريزة سكان المروج دليلهم في ذلك بعض الاشجار النامية بشكل غير مألوف,, او هم
يسترشدون بتل مرتفع مميز والافبموقع الشمس ان عزّ ذلك!,
وانحدر (سام) تاركا التل خلفه متوغلا في سهل التين الشوكي الجاثم بين ال (كوينتانيلا) وال (بييدرا) وبعد ساعتين,, اكتشف بانه قد اضاع الطريق وتلت ذلك حالة
الحيرة الفكرية والتخبط في متاهات الشك واستعجال الانتهاء الى مكان ما, اما (مكسيكو) فكان تواقا الى الوصول,, مجتازا متاهات الغابة وممراتها الملتوية بخفة
يحسد عليها وادرك بغريزة الحيوان ان سيده قد ضل الطريق وتاه, ولم يكن هناك مزيد من التلال التي يستشرفون عبرها ما امتد امامهم من بقاع بل هي ادغال ملتفة
متشابكة لا يتأتى اختراقها في بعض مناحيها لأرنب,, كان (سام) قد توغل,, دون ان يشعر - في اعماق اجمة (الفريو) النائية ولم يكن الامر جد خطير بالنسبة لصاحب
قطيع مثل (سام) اجل,, ما كان الامر ليتعدى النية ليوم او ليلة يفقد خلالها وجبة او اثنين ويفترش الاعشاب ليلا في غفوة حتى مطلع الفجر على انه ما اعتاد
المبيت خارج منزله,, بعيدا عن زوجته التي كانت تخاف من هجمات قطاع الطريق، من الهوام والزواحف، ولذا فانه ما تركها ليلة قط!,
كانت الساعة تناهز الرابعة عصرا حين استيقظ ضميره وكان منهكا بائسا مهموما لشدة ما كابد من قلق، لا بسبب الحر او الاجهاد، وكان يحاول العثور على الطريق
المفضية الى معبر (الفريو)وحقل (التشابمان),, ذاك المسار الذي لابد انه قد اجتازه - دون ان يشعر - في احد الممرات الشائكة المظلمة فان كان الامر كذلك -
قال في نفسه - فلا بد انه قد ابتعد عن منزله بما بقارب الخمسين ميلا واذا ما قدّر له ان يصل الى حقل او مخيم او أي مكان يستطيع من خلاله استعارة حصان نشيط
والاستعلام عن الطريق فسيعود الى زوجته وابنه لتوه وان اقتضاه ذلك الليل بطوله - قال مناجيا نفسه وفلول المساء تدنو وتدنو وغبار ظلمتها يمتزج بظلمة
الافكار الحزينة في ذاته,
وتناوشته احاسيس شتى طغى عليها الندم والاحساس بالذنب تجاه ما اقترفه لسانه بحق زوجته وشعر بغصة في حلقه وهو يدرك كم كان قاسيا عليها - المسكينة - اعاد
النجوى - يكفي ما هي عليه من وحدة وعزلة واعمال منزلية شتى حتى يرشقها في كل حين بكلمات جارحة لائمة مؤنبة! وشتم نفسه وهو يستشعر موجة مفاجئة من الخزي
تجتاحه,, موجة فاقت وهج حرارة الطقس عندما تذكر المرات العديدة التي اسمعها أمرَّ الكلمات الهازئة لانها كانت تجد في نفسها ميلا لقراءة الروايات,
،- تلك البنيّة المسكينة , ما كان لها من سلوى غير ذلك! قال (سام) لنفسه بصوت عال منتحبا ، صوت لم يألفه (مكسيكو) الذي احس جراء ذلك بشيء من الخجل!- اما
انا ,, الاحمق المتهور الظربان المنتن ,, فاني استحق الجلد بحزام سرجي هذا - المسكينة كم قاست,, تطبخ وتغسل وتمسح و,, حتى اذا ما قرأت بضع كليمات حططت من
قدرها وانتقصت من حقها بعبارات لاذعة مهينة! واستعاد صورتها في خياله يوم ان التقى بها اول مرة في (دجتاون) كانت (مارتي) ذكية ريانة جميلة قبل ان تخمد
الشمس تلك الورود النضرة في خديها ويطوع صمت المزرعة طموحاتها المتأججة:
،- ان تفوهت امامها بكلمة جارحة ثانية- قال مهدداً ذاته في وعد ووعيد - ان لم اطوقها بما ألفته مني من محبة وحنان فعسى ان اقع في براثن قطة برية تمزقني
اربا!،
كان عليه ان يكفر عما ارتكبه بحقها ولذا فقد قرر ان يكتب الى عملائه (غارسيا وجونز) في (سان انتونيو) كيما يرسلوا صندوقا مليئا بالكتب والروايات لمارثي
اجل كل شيء سيتغير وتساءل عما اذا كان وضع (بيانو) صغير في احدى الغرف سيلغي الحاجة الى مغادرة المنزل,
وغابت رؤى الخطيئة والتفكير ليحل محلها خاطر لا يقل عنها اهمية وحتمية ذاك هو اضطرار زوجته وابنه الى قضاء الليلة بدونه, وكان المساء اما جنَّ مصدر وحشة
لمارثي التي تهرع الى ذراع زوجها القوية، دوما فتريح عليها رأسها وتنهيدة حرّى تنبىء بما تضمره له - رغم ما يقع بينهما من مناوشات - من محبة وارتياح وثقة
واطمئنان، ولم تكن مخاوفها وهمية مصطنعة اذ ان كثيرا من الاهوال كانت تحيط بهم دوما,, هناك,, في الاعالي يظل قطّاع الطرق يتربصون بالقاطنين الدوائر ناهيك
عن الزواحف والحشرات السامة والاسود الامريكية,, المسكينة سيشل الرعب حركتها فيما سيظل الصغير (راندي) ينتحب مناديا أباه ولاحياة لمن ينادي,, فكر (سام)
والادغال الملتوية تمتد امامه الى ما لا نهاية,, والصبار ونبات المسكيت الشائك,, ومنحدر ينتهي لتعلو الارض ثانية الى منحدر اكبر,, تشابهت فلم يعد يميز
هذا عن ذاك على انها طرّاً كانت رغم ذلك جديدة,, غريبة عليه,,, فقط - ناجى نفسه مجددا - لو استطعت ان اصل الى مكان ما!،
وشرع - كعادة الانسان ابّان الازمات والمحن - يفسلف الاشياء راسما خط مقارنة بين الجبلّة والصنعة، فارتأى ان الصنعة تسير في خط مستقيم فيما تدور الجبلة
الطبيعية للمرء في دوائر,, بأن من يسير على نهج ممتد لا عوج فيه هو,, انسان مصطنع جانب الفطرة وبأن الدبلوماسي - على النقيض من ذلك - هو اقرب الى الجبلّة
والطبيعة ولذا فان من يضل طريقه عبر الثلوج يظل يدور في دوائر مغلقة حتى يسقطه الاعياء والانهاك فيندثر تحتها,, هكذا قالت آثار اقدام من فني منهم, وليس
حظ الموغلين في متاهات الفكر والفلسفة بأكثر منهم اذ انهم يعودون دوما الى ,, نقطة البداية فينتهون الى حيث,, ابتدأوا!,
ما ان شارف (سام) على الخروج من ذلك اليم التأملي الطارىء حتى احس بتغير في وقع خطوات حصانه (مكسيكو) اذ ان قفزاته الرشيقة السريعة قد استكانت فجأة
وهدأت,, كأنما كانت تقرأ ما اعتمل في ذات سيده (سام ويبر) من ندم وأسى واطلق (سام) تنهيدة عميقة فيما كان (مكسيكو) يعلو به تلا غطته الاعشاب البرية ويرتفع
عن الارض بنحو من عشرة اقدام او ينيف قليلا:
،- هيا (مكسيكو) - قال مخاطبا حصانه - ليس هذا بوقت التقاعس اعرف انك جائع منهك,, رباه هل اختفت المنازل من هذا العالم قاطبة؟ قال ذلك ولكز حصانه,, على ان
(مكسيكو) ما رأى داعيا لذلك بعد ان أشعرته غريزته بقرب الخلاص مما هم فيه، واسرع في مشيته مع انحدار التل ليجد (سام) نفسه فجأة امام الباب الخلفي لبيته
الذي ما كانت تفصله عنه سوى بضع ياردات,
كانت (مارثي) لا تزال جالسة على كرسيها الهزاز تتابع الرواية الشيقة ذاتها وقد اسندت الى عتبة البيت قدميها، اما (راندي) الذي كان يلهو بمهمازين مدمدما
بأحد الاناشيد فقد نظر الى ابيه قليلا ثم عاد الى ما كان عليه، واما (مارثي) فقد اراحت رأسها بكسل على ظهر الكرسي ورمقته بعينين ساكنتين واضعة الكتاب على
ركبتيها بعد ان اقفلته معلّمة موضع الوقف فيه بإحدى اصابعها,
وهز (سام) جسده على نحو غريب نوعا كرجل افاق لتوه من حلم طويل ثم ترجل ببطء قبل ان يبلل شفتيه بلسانه,
،- أرى انك لازلت جالسة لا تراوحين مكانك,, سادرة في غيك؟! ألا تكفين عن قراءة الروايات؟ تبّاً لك!،
لقد دار (سام) حول الحلقة اياها فآب ثانية الى نفسه,
حصة ابراهيم العمّار
،* تأليف: أو, هنري
O . Henry
ترجمة: حصة إبراهيم العمّار