أيام العرق والطِّين
عبدالله نور
جنّي أثيثيا
لله در (دابان) فقد قضى على الجرذان، والصِّل الاسود، وهرب من وجهه ثلاثة من أبالسة الجان، فلم يبق الا (جني أثيثيا) وقد تلبّس عظام رجل أعرابي له شأن،
فلئن قدر على اخراجه منه فإنه رجل خارق موهوب وعنده خاتم سليمان،
إنه لمن حسن الطالع ان هذا المسكون ب(جنّي أثيثيا) يتكلم وكلامه شبه مترابط ومفهوم، وعندما وقعت عليه عين دابان للوهلة الاولى كان المسكون متغيظا متزبّدا
وكان حبل الشتائم قد وصل الى قوله: (اي والله انه ابن عمي عمت عينه، حطيحطه، الاعيرج الأقيرع ابو رويس مثل رويس البقرة، الاغيلَب ابو رقيبة مثل الوقصاء،
ابو خرطوم يبول عليه كل ذباب، والمقرقف المقرقم، الافيحج اللي يتديرم مثل النّسوان، المتوه المثغري، المخرفع الاحيجن، بهينه، العَشمَليل الجَمعَليل،
الاقيلع المشكول ابو عراجين كأنها محاجين، الضبعة، نباش القبور، ابو،،، وكان دابان يسمعه يرجم بالكلمات وكأنه يقذف بها كالحجارة المصلاة بالنار ليحرق ابن
عمه هذا، وعرف دابان ان الرجل المسكين سيواصل الى ان يحرق ويحترق ولا يضر غير نفسه فتركه جانبا وراح يسأل بعض الاسئلة الهامة عن بعض الجوانب الهامة
فجاءته الاجوبة واخذ منها ما هو مهم لعلاج الرجل،
كان اسمه سعدا، ويلقبونه ب(سعد الريح) وكان شجاعا الى حد خارق وهو مشهور باسم (بلاّع الكبود)، وكان خطيبا فصيحا بليغا فكان ايضا معروفا باسم (مفتاح
المنابر) وكان كريما الى حد الاريحية، وخبيرا بمواقع المياه في الصحاري وكان بنفسه يتولى حفر الآبار للضعفة من الناس فتجود عليهم الصحراء بما لا يقدر عليه
السلاطين، وعرف ان اسم جني اثيثيا (قحطة) فهي من بنات جني اثيثيا وليست من اولاده وليس هو نفسه جني أثيثيا بعينه، ولم يتردد دابان في مباشرة علاجه بعد ان
طلب منهم فك قيوده وتهيئته لجلسة العلاج الاولى وجميعهم من حوله قد انصاعوا لكل طلبات دابان وعيونهم في جباهم وقلوبهم في حلوقهم من هول المعركة القادمة،
في اقل من خمس دقائق تحول هذا المسكون البائس الميؤوس من شفائه الى مخلوق طبيعي، بل وأليف وقريب الى الشفافية الشاعرية والبراءة الطافحة بالفرح والسرور
وصار كأنه طفل صغير لم يشهد رؤية النار وهي تدندن من خلل الحطب وتتلعَّب وتمرح فصار مثلها كأنه شعلة نار صغيرة يحركها دابان على هواه،
ترى ما الذي حدث؟!،
بكل بساطة لم يزد في الدقيقة الاولى على قيامه بحفر حفرة صغيرة، واشعل النار فيما تيسر من من الحطبِ ثم قام بعدئذ بنثر صعرور اللبان الذي اخرجه من كيسه،
وحين طرقع صوتها ثم قعقع ثم انفجر من داخلها عواء مثل عواء الذئب الاطلس في ليلة جوع قرَّة، واستدار الجميع بما فيهم المريض المسكون سعد الريح قام بنثر
صعرور آخرمن مسحوق معدني بشبه النشادر، وبدأت النار تغني مثل سانية مشدودة الى عشرة بعارين ارحبية، ثم بدأت تتراقص بتلاوين مرة ارجوانية فاتحة، ومرة
ارجوانية مُشَقرقة، او مجعّرة، او مطفطفة كانت نارا لذيذة يتابعها صاحب جنية أثيثيا بكل جنونه وبكل ما تقافز من عظمه حتى صار مثلها يحاكيها وهي تبغم، او
تغمر، او تدعو، او تنادي، وكان دابان يرأمه مثل امه، وحين يخرج من النار لسان ويدق كأنه حية صفراء فيتطرب سعد لانه قد خرج ايضا لسان كأنه حية رقطا، وتخرج
مجموعة من الحيّات بتلاوين خلابة وتظل تطارد بعضها في لعبة غزلية شهوانية، ويأخذ الطرب من سعد مأخذه فيصيح: يا ولد، يا ولد، هاتوا ان كان عندكم بطيخ، او
بعض الخماج، ترى الديبان تحب الجح، والعنب الخماج، وفجأة يقوم ويرقص ويستنهض الحاضرين بمشاركة الرقص على نحو ما يفعل الاعراب البداة في صباهم،
أكثر من مرة، وكان دابان ينهرهم اذا هم نادوا سعدا بلقب (العيارة) غليميص، كان يسترفدهم في ان يمنحوه البهجة التي فقدها لتخرج منه الجنية، كانت ليلة من
ليالي الاعراس التأريخية النادرة في حياة كل الحاضرين، وزعيمهم سعد الريح، وظلوا يواصلونها فترة ليست بالقصيرة، وكان دابان قد قال لهم بالحرف الواحد: اذا
انتهيتم من الرقص تعالوا لي، ودقت طبول الحرب بين ابن سعود وحاكم مكة الشريف، واستدار الزمن مثل دورة اسطوانة،


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved