البهي،، وجلست على احد المقاعد الخشبية ثم شرعت تقرأ كتاباً تعين ان تنهي قراءته في نصف ساعة،
وعودا على بدء تقول بأنها كانت ترتدي رداء رماديا عاديا لدرجة اخفت ملامح دقة التصميم وروعة الزي،
وكانت تلبس قبعة نسوية اسبلت عليها خمارا شفافاً غطاها وامتد ليحجب محيا شع من خلاله متوهجاً بجمال هادىء،، لاهٍ،، غافل! كانت قد اتت الى نفس المكان،،
بذات الزمان،، يوم امس والذي قبله وثمة شخص كان يعرف ذلك، ذاك الشاب الذي كان على علم بما سلف،، طفق يحوم حول المكان،، آملاً ان يسعده الحظ فتسنح له فرصة
لبدء حوار معها،، وما تخلى عنه،، اذ انها في خضم قلب احدى الصفحات سقط الكتاب من يدها فجأة متجاوزاً موقع صاحبته بما ينيّف عن الياردة وبنهم فوري سارع
الشاب الى التقاطه واعادته الى صاحبته بذات السيماء الشائعة في المنتزهات العامة،، مزيج من الشهامة والامل،، ورام مدخلاً الى ذاتها فعلّق على حالة الطقس
السائد،
،- وهو موضوع تنسب اليه اليد الطولى مع شديد الاسف فيما يكتنف هذا العالم من كدر وبؤس- ثم وقف - في قلق- على مشارف الامل واليأس ينتظر مصيره المحتوم،
وطافت به عيناها بشيء من اللامبالاة،، مجرية مسحاً شاملاً على زيه البسيط في اناقة،، وعلى ملامحه التي ما قرأت في اعطافها تعبيراً مميزاً،
،- بامكانك الجلوس- ان اردت- قالت بصوت عذب رخيم رنان- انا اريدك حقاً ان تجلس،، انسكبت جل صبابة النور وما عاد فيّ بلغة تعين على القراءة، افضل الحديث
معك،
وبكياسة ولطف جلس الى جانبها غير مصدق كيف تهادت به مراكب النجاة الى شواطىء الامل الاخضر بهذه السرعة:
،- اتعلمين- بادرها بذات النبرة التي يستهل بها غرباء الحدائق حديثهم عادة- ما رأيت غادة في جمالك منذ زمن- ما غبت عن ناظري بالامس- وهاتان العينان
الساحرتان المشعتان بما يعجز اليراع عن وصفه،، ايا ريّانة العود!،
،- ايا كنت- قالت الفتاة بنبرات ثلجية فان عليك ان تتذكر بأني سيدة محترمة- لسوف اصفح عما اقترفت من تجاوز بحقي لسبب واحد هو ان وزرك شائع بين طبقة
مجتمعك!
لقد طلبت منك ان تجلس فان كنت قد ارتأيت بأن في ذلك ما يشفع لك بمناداتي بريانة العود فاني اتراجع عن دعوتي لك،
،- استبيح عذرك سيدتي- قال الشاب وقد استحال شعوره بالبهجة الى احساس بالندم والخزي- لقد اخطأت في حقك لكنك تعرفين ان بعض فتيات المنتزهات،، اقصد،، تعرفين
ما ارمي اليه،
،- دع هذا الموضوع جانباً من فضلك انا بالطبع اعرف ماتقصد واخبرني ما قصة هؤلاء الناس الذين تغص بهم ممرات المنتزة - الى اين يتجهون؟ ولِمَ هم في عجلة من
امرهم وهل هم سعداء؟
وتخلى الشاب عن غنج الحب وعتبه،، وكان يفكر فيما عساه يضطلع به من دور، كانت فتاة غير عادية:
،- في مراقبتهم متعة بالغة- قال مسايراً مزاجها- تلك هي دراما الحياة الرائعة- بعضهم ذاهب لتناول طعام العشاء- فيما يذهب البعض الآخر لبعض شئونه- ليت لنا
ان نطلع على سجلات حياتهم،
،- اما انا فلا يهمني ذلك لست محبة للاستطلاع- وانما اجيء الى هنا بغية ان اكون قريبة من قلب الانسانية العظيم النابض بكل صراعات الحياة وتناقضاتها اما
دوري في الحياة فيكمن في استشراف تلك البقعة التي لا تستشعر فيها تلك النبضات ابداً،
لا ريب وانك قد فطنت الى ما ارمي اليه سيد!،
،- باركنستاكر رد الشاب وقد بدا متحمسا سعيداً وشعاعات من امل زاحف تضيء دواخله،
،- كلا؟ قالت الفتاة رافعة اصبعاً رخصة - مبتسمة في رقة لا ريب وانك قد عرفت لتوك اذ انه من الصعب بمكان ابقاء اسماء وصور المشاهير بعيداً عن الصحافة- ان
قبعة وخمار خادمتي تحجب شخصيتي عن كثير من العيون- ليتك رأيت عيني سائقي الخاص وهي ترمقهما بنظرات متسللة مندهشة،، هناك خمسة اسماء او ستة لمشاهير معروفين
واسمي - وليس الذنب ذنبي فقد ولدت هكذا- هو من ضمن هذه الاسماء- لقد افضيت اليك سيد ستاكنبوت بمكنون ذاتي،،
،- باركنستاكر قال بتواضع مصححاً،
،- سيد باركنستاكر لاني اردت ان اتحدث ولو لمرة في حياتي مع انسان طبيعي ما افسده الجاه والنقوة الطبقية الاجتماعية الجوفاء،، اواه،، انت لا تدرك حجم
معاناتي لا شيء حولي سوى المال والمال،، ثم المال واناس لا يختلفون عني بشيء لقد سئمت من كل شيء الثروة والجاه والمجوهرات والسفر وشتى انواع النعيم!،
،- لقد كنت اظن ان المال هو كل شيء في هذا الوجود- جاءها صوت الشاب،
،- صحيح ان الدخل الكافي هو من ضرورات الحياة- قالت- الا انه حين تكون الملايين بحوزتك الى درجة،، وانهت جملتها باشارة من يدها ترمز الى القنوط- انها
الرقابة،، هي علة ذلك وما يترتب جراء ذلك من ممارسات تسير على ذات الوتيرة،، المسارح،، النزهات ولائم الغداء والعشاء،، لقد مللت ذلك كله، ان صوت ارتطام
الثلج بجدران كأس المشروب يزعجني كثيراً ورنا اليها السيد باركنستاكر باهتمام شديد:
،- لطالما عشقت قراءة سير الاغنياء ومعرفة انماط حياتهم،،
،- انا صعلوك كما ترين- على اني ارجو تصحيح معلوماتي فيما يختص بما ادرجته عن المشروبات كنت اظن انه يتم تبريدها في زجاجتها لا بوضع الثلج عليها في
الكأس؟!،
وندت عن الفتاة ضحكة موسيقية عكست انشراحاً وسعادة لا مثيل لها،، يجب ان تعرف- قالت في نبرة مسايرة اننا- ذوي الطبقة العليا نستمد جل سرورنا وانشراحنا عبر
الخروج عن المألوف- الموضة الآن هي وضع الثلج في اقداح المشروبات واول من ادخلها كان امير تارتري الزائر ابان تناوله طعام العشاء في الوالدورف ولسوف
تضمحل هذه الصرعة كيما تحل اخرى مكانها تماما كما هي الحال الآن في جادة ماديسون اذ انه وابان حفل عشاء هذا الاسبوع تم وضع قفازات صغيرة خضراء الى جانب
كل صحن كيما يستخدم ابان تناول الزيتون،
،- فهمت- علق الشاب بهدوء- تلك المتع الخاصة بذوي الطبقة العليا لا تظهر امام ملأ الطبقة الكادحة،
،- بل ان ذلك قد يحدث احياناً- قالت مصححة ثم استطردت فيما يشبه الهمس- تحدثني نفسي بأن عليَّ ألاّ اتزوج إلا انساناً عاديا يكسب عيشه بعرق جبينه اذ انه
افضل الف مرة من عالة لا صنعة له على اني اظن ان الغلبة للاخير اذ اني قد تلقيت راهنا عرضين للزواج احدهما من دوق الماني كبير عانت زوجته السابقة الامرين
من قسوته فيما اتى العرض الاخر من ماركيز انجليزي في برودة الثلج حداً يجعلني ارجح احتمالية قبول الاول رغم نارية مزاجه- على اني اعجب مما دفعني الى
الافضاء اليك بكل دخيلة ذاتي فأنا بالكاد اعرفك سيد باكنستاكر ،
،- باركنستاكر - قال الشاب مصمماً- لن يتسنى لك ابداً تقييم ما أكنه لك من امتنان جراء ثقتك بي،
ورنت اليه الفتاة بنظرات هادئة تحمل في طياتها كثيراً من اللامبالاة التي تتناسب مع حجم التفاوت الاجتماعي بينهما،
،- ما مهنتك سيد باكنستاكر ؟ سألته،
،- مهنة متواضعة جداً- على اني اطمح في تسنم مراتب اعلى مستقبلاً أكنت جادة حينما قلت بإنك لا تمانعين في الزواج ممن هو دونك مستوى؟
،- بالتأكيد الا انه ينبغي ان تأخذ في الحسبان اني قد قلت ربما هناك الخاطب الالماني والانجليزي كما اسلفت،
،- انا اعمل- قال- في احد المطاعم،
وانكمشت الفتاة نوعاً: لا كنادل؟ قالت في تردد،، لا يعيب العمل الشريف المرء على ان الخدمة الشخصية،، اعني،، - لست نادلاً،، انا اعمل محاسباً سيدتي هناك!
واشار الى مطعم تلألأت انواره التي خطت بأحرف هائلة انا محاسب هناك،
وألقت الفتاة نظرة على ساعة معصمها الانيقة ثم هبت واقفة قبل ان تعمد الى الكتاب الذي كانت تقرأ فيه فتدسه في عجلة داخل حقيبة صغيرة تدلت من وسطها على ان
الكتاب بدا اكبر من جرابه بكثير،
،- وكيف تفسر عدم وجودك على رأس العمل راهناً؟ سألته،
- اعمل الآن بنظام الدوام الليلي- رد الشاب- لا تزال امامي ساعة كاملة قبل مباشرة عملي- هل سأراك ثانية؟ - لست ادري- ربما التقينا صدفة كلقائنا الآن- على
اني استبعد ان اقع اسيرة لهذه النزوة ثانية، علي ان اعود بسرعة فلدي ارتباطات عدة والسائق بانتظاري لابد انك قد لمحت السيارة البيضاء تلك التي تقف امام
المنتزه،،
،- السيارة ذات التروس الحمراء - قال الشاب عاقداً حاجبيه -،
،- اجل كثيراً ما أجيء في هذه السيارة والشوفيير (بيير) ينتظرني هناك، انه يعتقد اني قد ذهبت للتسوق في المجمع المقابل تخيل حياتنا تلك،، حيث نضطر احياناً
للكذب على سائقينا الخاصين! طاب مساؤك،
،- لكن الليل قد ارخى الآن سدوله والمنتزه يعج بكثير من الاشرار هلا اصطحبتك حتى،،
،- ان كنت تكن لي ادنى تقدير فالزم مقعدك هذا ولا تتركه الا بعد مضي عشر دقائق على مغادرتي هذا المكان- لا اقصد اتهامك بشيء على انك تدرك ان السيارات تحمل
عادة الاحرف الاولى لاسم مالكها- تصبح على خير،
ومضت تشق برشاقة طريقها تطويها تجاويف الشفق الموغل في الاحمرار،، وابخرة من غموض وشموخ تحجبها عن ناظريه وظلت عيناه تشيعانها حتى تجاوزت المنتزة واتجهت
نحو السيارة الواقفة امامه فتبعها في خطوات متعرجة مستتراً خلف شجيرات الحديقة دون ان يدعها تخرج عن دائرة بصره وما ان حاذت السيارة الواقفة حتى،، رمقتها
بنظرة سريعة وتجاوزتها بخفة ثم واصلت السير حتى عبرت الشارع ولاحقتها عينا الشاب حتى رآها تعبر الرصيف وتلج الى المطعم ذي الحروف الكبيرة البراقة كان
مطعماً رتيباً طليت جدرانه بالابيض واحتل الزجاج مساحة كبيرة منه، ودلفت الفتاة الى جهته الخلفية ثم ظهرت ثانية وقد خلعت قبعتها وخمارها،
كان مكتب المحاسبة في الجهة الامامية من المطعم ومن على الكرسي الجاثم خلف ماكينة الصرافة انزلقت فتاة شعرها احمر مشيرة الى الساعة ابان ذلك وسارعت ذات
الرداء الرمادي بامتطاء الكرسي ذاته اما الشاب فوضع يديه في جيوب بنطاله ثم عاد مجتازاً الرصيف ذاته وعند المنعطف اصطدمت قدمه بكتيب صغير اطاره الارتطام
فوقع منه غير بعيد وانعم فيه النظر فأدرك انه الكتاب الذي كانت الفتاة تقرأ فيه وبلا مبالاة التقطه وقرأ عنوانه، كان كتاب الطبعة الجديدة لألف ليلة وليلة
تأليف الكاتب ستيفنسون وألقى به جانباً،، ثم طفق يجول لدقيقة دون هدف معين ثم قفز الى السيارة البيضاء واسترخى على الوسائد المخملية قبل ان يقول للسائق
آمراً: الى النادي يا هنري ،
،(تمت)،