أيام العرق والطين
عبدالله نور
القنبلة الجرثومية
حين لم يبق من ضوء القمر وهو يَعشُو إلا بقية من طيف كأنه مرآة تنفّست فوقها عذراء منتظرة، وراح ينقطع نباح خافت لكلب أجهده الليل الكبير، ويكون الفجر قد
مسح براحتيه الشرفات المعتمة للبيوت الطينية، يكون في مثل هذه النُّسيئات وقت (دابان) ليجوس من فوق بغلته العجوز طرقات الرياض، شارعا شارعا، وسكة سكة،
وزقاقا زقاقا، وليس معه غير بقية ما تهدّل فوق جبينه من قصص شريف مكة في ذلك الزمان، ولكن السيد دابان يزيح هذه من فوق جبينه ويسير محفوفا بأصوات أكثر من
مئة وخمسين سانية يرتفع صياحها الى قمم الأشجار القمرية، ويختلط ما يُقبلُ وهو يكركر ويخرخر ويفرفر مع ما يذهب وهو يُوعوِع ويُوكوك ويَبغم ويَنزِب ويضخو
ويشجح ويعوي ويستصرخ ويتوّعد ويترعّد وينادي بأصوات أخرى تتقاطع من كل الأصوات دون ان تتنافر او تتداخل،
رغم كون الصبح بأبوابه العالية المشرعة قد تكدّس في الطرقات إلا ان دابان قد وجد نفسه على غير ما يرام، لا سيما وأن اطماع شريف مكة ستمتد الى بلدة (تربة) ،
وإذن فهذه هي الحرب، وستكون حربا فاصلة بين ابن سعود وبين الشريف،
لكن هذه الفكرة سرعان ما تمكن دابان من تأجيلها إذ ألفى نفسه أمام دكان (ابوكاظم) شيخ (سوق الحساوية) وألفى معه هراوة يتوعد بها عدوّا سيصير بينهما شأن
وأي شأن،
لم يكن (ابوكاظم) منزعجا من هذا العدو، فالآخرون من زملائه منزعجون كذلك ولكنهم على غير بصيرة بكيفية الخلاص من عدوهم اللدود، وهم لا يتوعدون مثل
،(أبوكاظم) فالواضح من وجومهم أنهم فاقدو الحيلة او الوسيلة، والواضح أيضا أن (أبوكاظم) يقوم بدور (الشجاع ذو القلب الخَرِع) انه يناور بدون ذخيرة، ليزكي
دوره كرئيس لهذا السوق، وما أن وقعت عينا (ابوكاظم) على (دابان) حتى صاح به صيحة من تذكر شيئا من الأمل المرجو عند (دابان)صاح وتوسّل ورجا وعلّق كل حبال
الآمال في (دابان): ان هذا العدو الجهنّمي الشيطاني لا يقهره إلا أنت يادابان، ولكن دابان يطلب من (أبوكاظم) طلبا واحدا يسيرا فقط، ومن ثم سيقضي على هذا
العدو في غمضة عين، وفجأة تحلَّق كل أصحاب الدكاكين وأطافوا بدابان، وليس بخاف على المارة مشكلة هؤلاء المساكين، إنهم يتاجرون ببيع الأبازير والأفاويه
والحبوب المحمّصة والملبّسة ونحوها، كما يتاجرون بأدوات الفلاحة ونحوها، وهذه كلها اصبحت فريسة لغزو الجرذان حيث تسلّطت على جميع ما لديهم ولا ينفع في
صدها ما لديهم من شدّاخات الفيران وما يماثلها من أحبولات تصلح للفئران ولكن لا تصلح للجرذان، بل تجدها الجرذان وسيلة من وسائل التلعّب والعبث،
هي كلمة واحدة اطلقها دابان وليس عنده غيرها، قال ل(ابو كاظم) بالحرف الواحد: (لابد من صيد جرذ واحد ذكر) ولابد من أن يكون ذكرا وعلى قيد الحياة، ولا يهم
كم عمره، وكيف هي صحته؟؟ وشاءت الأقدار ان (حَرَكرَك) المتسول المسكين قد قعص جرذا تاه عن دربه فجاء به الى دابان وتطايرت عيون الناس لينظروا أحبولة
دابان الشيطانية،
لم يتلجلج أو يتردد، نزعه من كف حركرك وفغصه ثم وجأه بين وركيه وامتلخ خصيتيه ورماه ليتخبط ويُصاوي على هواه ،
يالها من قنبلة جرثومية لم يعرفها تأريخ البشرية من قبل، دقيقة واحدة وإذا الدكان يمتلىء من اعداد الجرذان المعضوضين والمنهوشين والممخوشين، وأعداد أخرى
صال عليهم الجرذ المخصي بالتنويب والعفاس والطعن الجائف الذي لا يرحم ولم يكن احدٌ من قبل يعلم ان الجرذ اذا خصي يصير قنبلة ماحقة لا تبقي ولا تذر، ومن
ذلك اليوم صار لدابان شأن عند أهل السوق وأي شأن؟!،


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved