أيام العرق والطين
عبدالله نور
شيخ الذِّبان
في بعض الفصول يكثر المتسولون إذ يخرجون من تحت الأرض أو من شقوق الفلوات، وينزوي )حَرَكرَك( وهو المتسول المألوف منذ نشأة سوق الرياض الشعبي )سوق
المقيبرة(, وأولاد المدارس )الكتاتيب( لا يحبون إلا حركرك,
،- حركرك، قلد لنا شيخ الذِّبان ؟؟
وحين يتردد في وجل,
،- أجل قلد لنا ذاكا وذاكا؟؟ قلدلنا داموك الكلاب؟؟,
ويجلس حركرك ويباطن ثم يرفع قُعوَه ويُقعِسُ بصدره إلى الأمام، ثم يمد عنقه وتنسدل أذناه طويلتين مثل أذني واحد من الكلاب الغريبة النافرة ويطلق صيحات من
حنك طويل مثل حنك الكلب ثم ينبح وهو يهمهم بكلمات تترك الأولاد يفرقعون من الضحك وهم يتصايحون ويشتمون داموك الكلاب الذي من الواضح أنه أحد الناس المزعجين
في السوق, ويتضاحك لذلك أيضا العتّالون والحمّارون ويفرح بالطبع كل من أبو سعبوله وصَبّ السِّعوِد وبريهمه والهِتفِه ثم إذا قام حركرك يعود إلى هيئته
المعروفة، هيئة رجل مخلخل، نصفه الأعلى مجدوع على بعضه، وله عينان خوصاوان كل واحدة سوادها مقبل إلى خشمه، ويداه طويلتان تلامسان ساقيه، وفي صدره مخلاة
يجمع فيها خوص الكراث، وأقاطيع الخبز والتمر، إنه بالفعل بائس متسول ومعاق من كل ناحية، وأحيانا، رغم إعاقته، إذا ضايقه الأولاد وكرروا رغباتهم في تقليد
بعض الناس المزعجين يقوم وينبعث من مكانه ويطير مثل الزرزور منبعِثاً من مكانه دفعة واحدة ويغيب في الأسواق,
هناك متسولون آخرون يأتون في مواسم معينة ويغيبون، ولكن لا أحد من أهل الرياض في جيل الثلاثينيات من القرن الهجري يألفهم أو يعطف عليهم وإن كانوا، بالطبع،
ذوو إثارة ومتعة غريبتين!! وأكثرهم تراه مضحكاً وزريا في الخلقة, فهذا مُكَوكِب العينين يبغتك ويفتح فمه عن آخره ويريك أنه بدون لسان، ويفغر فمه عن آخره
وأنت مشدوه من اتساعه المهول وأنه كما يزعم بدون لسان أو حتى ما يدل على أنه ذات يوم كان بلسان، ولكن كيف يستطيع أن يتكلم هكذا، وكيف تمكن الحنشل من سرقة
لسانه؟ وماذا يريدون بلسانه، وكيف هو الآن يلجلج كأن له ألف لسان؟!
والآخر يدحمك من كتفك الخلفي كأنك معترض في طريقه ثم يحملق فيك ويُدَنقِشُ بعينيه إلى رأسك ثم إلى الأرض ثم إلى تحت وينتفض بكل جسمه ولحيته وعثنونه المليء
بالمخاط ثم يسقط على قدميك ويمسك بهما وهو يستجير بك في أن تفُكَّه من سِعلاة ستخسف به الأرض إذا لم يدفع لها اللي تقدر عليه !!
وهناك متسولون يزعمون أنهم مرضى وفيهم عاهات مثل الزابورة، والقرقارة، والكناشة، وإذا جُنَّ الليل لا ينامون في المساجد كالشَّحاذين ولكن يختفون في حارة
)الدِّحو( بجانب المعيقلية وهي حارة غريبة ومخيفة أيضا,
إنها لا تسمى حارة، قل هي خندق حفروه ذات يوم للدخول من تحت الحارة المجاورة، ولكن هي ليست مثل الخندق لأن بها ما يوحي بأن كارثة طبيعية صنعتها بهذه
الصورة, في البداية، ستنحدر بك الهوينا ثم بعد قليل ستروغ من تحت قدميك إلى سوق تظن أنه سيوصلك إلى القاع ولكنه يفاجئك بأنه يرتفع إلى سوق يقود إلى شيء
مثل القلعة فدعه وإلا سقطت في حارة )المعيقلية( وخذ السوق الموازي وستجد نفسك في حارة أو خندق )الدحو( واعتبر نفسك أنك في بيت نمل كبير، بيت قد تهدم بعضه
على بعضه وحكم على أهله بالعيش بهذه الصورة,
في هذا )الدحو( يقطن المتسولون الأغراب، ويسكن الحمارون، ويسكن العصفور الشوكي الذي يسمونه أو يدعونه ب)أم شويك(,
اما المتسولون فإنهم متناثرون في الطرقات، وأما الحمارون فهم في دواخل بيوتات صغيرة متراكبة بعضها فوق بعضها، وأحسنها بيت حركرك الذي يحظى بتقديرهم جميعاً
لأنه كان في يوم من الأيام زعيماً لجيل سابق من الحمارين, وإذا كان الزمن في فصل الشتاء فقد يسعفك الحظ برؤية العصفور )أم شويك( وهي تقاتل حماراً قد آذاها
وعندئذ ستبصر العجب العجاب؟!
إذا نهق الحمار في فصل الشتاء، وكان )أم شويك( قد ابتنى له عشاً قريباً منه تضعضع عشه من نكارة صوت الحمار لأن عشه هزيل وضعيف ومؤسَس على عيدان قليلة
ركيكة يضعه بين أغصان هزيلة وضعيفة فوق شجيرة يسمونها الشَّفلح فوق فوهة بئر مهجورة، وإذا كان هذا هو شكل العش فإن عصفور أم شويك مثل عشه لا يصل إلى نصف
جسم العصفور الدوري المعروف؟؟


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved