وفي جزر المطر,, دهشة
دهشة في جزر إبداع الفيروز - رحبانية 3-3
ميرفت عبدالرحمن السحلي
و,, ثقب في الذاكرة,, ووجبة دسمة من النسيان,, وعلى هامش الحزن وفوق فوهة الوحدة, كانوا هناك,, من علم الدمع وجع الغناء,, في غرف الموج المسافر يهرع الشجر العاري الى جراح الغيم والذكريات,,
غمام اندلع للتو,, نهر ينطفىء اللحظة ا لماضية,, جبل مازال يقف كسابق عهده,, صوت غامض يسري في أشعة الصمت,, صوت الغمام حين يلون الطرقات بالرمادي والغامض,, رائحة مغتربة,, هي رائحة المدن المجهضة وسط الأنين الجامح لأعناق النخل الشاخصة الى السماء! نقطة ما في قلب النهر تود العودة للمنبع,, ويجرفها الريح والانحدار الى المصب, قطرة واحدة وسط آلاف من زخات المطر تود الرجوع الى السحابة التي ضمتها فانجبتها,, وتشدها الجاذبية فترتطم بالارض و,, تسكت!
للرحبانية مناخ خاص, وطقس شديد الخصوصية في ابداعهم,, فحالهم حال أغلبية الشعراء والمبدعين,, مزيج غريب من الإغتراب والحنين والانتماء في جعبة واحدة,, وإنما كان للاغتراب شكل خاص يشبه مدينة فقدت طريقها من بين البلدان المهجورة وقت المساء,, فكانت لها اغترابها الوحيد,, ليس له شبيه,, اغتراب كان كعويل السفن المغادرة دون رصيف للانتظار,, فقد جسدوا للوحدة ألف وجع كصقيع المرايا البعيدة عن الوجوه والصور:
قديش كان في ناس, ع المفرق تنطر ناس/ وتشتي الدني,, يحملو شمسية/ وأنا بأيام الصحو,, ما حدا نطرين/ صار لي شي مية سنة,, مشلوح بها الدكان/ ضجرت مني الحيطان,, ومستحية تقول/ وأنا عيني ع الحلا,, والحلاع الطرقات/ غنيلو غنيات,, وهو بحالو مشغول/ نطرت مواعيد الأرض,, وما حدا نطرني/ صار لي شيء ميت سنة,, عم ألف عناوين/ مش معروفة لمين,, وديلن اخبار/ بكرى لابد السما,, لتشتيني ع الباب/ شمسيات واحباب,, ياخذوني شيء نهار/ واللي اتذكر كل الناس,, بالآخر ذكرني/ قديش كان في ناس,, ع المفرق تنطر ناس/ وتشتي الدني,, ويحملو شمسية/ وأنا بأيام الصحو,, ما حدا نطرني ,
كانت هذه الأغنية مثالا التقطته من بين عشرات الاغاني التي تمثل الوحدة والاغتراب,, فهنا جسد في الشخصية التي أتقنت أداءها فيروز,, كم هائل من الوحدة والاغتراب حيث تحكي الشخصية وتبث شكواها وهي تنظر لارض مزدحمة باللقاء, حتى وسط الريح القاسية وسياط المطر,, فيحملون مظلات ويبقى اللقاء في الأكف الدافئة والأهداب الساخنة,, مقيما,, وهي, وحدها حتى بأيام الصحو والدفء لم يكن في انتظارها أحد,, وتبقى الكفان الدامعتان في برودة الجدب والوحدة,, ثم تنتقل للمقطع الثاني ويكون للوحدة وجه جديد,, موت يتجدد على مهل اعواما وراء أعوام,, ولتجسيد الكثرة في العدد شدت مئة عام نتنظر في سكون وتئن في استسلام بلا سأم,, بل من كثرة ما صبرت ضجرت منها الأشياء حتى الجدران سئمت صبرها! ولكن الخجل لا يجعلها تفصح وهذا لون آخر من الوان الوحدة,, حتى الجدران وحيدة,, الشخصية تتوق للحب واللقاء الحلال وترى الطرقات مزدحمة بهذا الحب فتستجديه بأغنايها, ولكن ينصرف عنها منشغلا بهمومه وحده ويتركها وحيدة, وانتظرت كل مواعيد اللقاء ولكن في النهاية لم يكن في انتظارها أحد,,!
وننتقل للمقطع الثالث والاخير فيتصاعد الشعور بالوحدة الى ذروته فيتسم بالغرابة والألم اذ لجأت الشخصية لأن تؤلف عناوين من محض خيالها المتألم وتكتب لهذه العناوين المجهولة رسائل تحكي فيها عن أخبارها واحزانها المشرئبة لقطرة فرح, وتخرج باكرا,, تزرع ساقيها على عتبة دارها,, تنتظر ردا لرسائلها شموسا وأحبابا ليخرجوها من سني الخرس ويزينوها بأحلى نهار,, وتفيق من احلام اليقظة هذي لتقول في النهاية ان الذي تذكر كل الناس في الآخر ذكرها,,, ياالله,, فالله هو ملجأ الجميع نفر اليه عندما تضيق بنا الأرض بما رحبت,,!
وتنتهي الاغنية بالمقطع الأول نفسه والذي يتكرر بعد كل مقطع,, وهذا مدلوله هو اصرار الشاعر على الوحدة والاغتراب حتى النهاية,
الصقيع والشتاء
توأمان للوحدة
خلفية دائمة للاغتراب,, هو الصقيع الذي يجد من الأجساد المغتربة حقلا خصبا ليترعرع كما في نفس الأغنية السابقة، واغنيات أخرى عديدة منها: وحدن - حبيتك بالصيف - ليالي الشمال الحزينة - رجعت الشتوية - لا انت حبيبي,,
فارس يأبى
الاستجداء في الحزن
الحزن سيد يتقطر من حليب الشجن,, ينادي شرفات بعيدة,, وجدران تحب النوافذ,, وامرأة من تعب, وغيمة تتسكع فوق رؤانا كطائر جائع يبكي فتحترق الغابات,, وتحترف الكلمات زرقة الوجد وتنساب الألحان في قلب المبدعين,, للموسيقى ايضا ابجدية موحدة في كل البلدان وتوارث المفهوم عن الألحان التي تتسم بالحزن أن تأخذ مقامات موسيقية معينة تتشابه بالبكاء والانكسار، مثل: مقام الصبا الشرقي - لا الصغير - سي بيمول أو العجم عشيران - مي, بالاضافة الى ضرورة انسياب اللحن في نغمات طويلة ومتصلة لجاتو ويضاف الى ذلك ان تكون بطيئة في ادائها,, هذا هو السائد,, بينما مارس الرحبانية ابتكاراتهم مع الألحان ايضا,,فالاغنية السابقة الذكر - كمثال - بدأت بنغمة ري بعيدة تماما عن مقامات الحزن والبكاء وكانت سريعة في الاداء نوعا,, وعلى الرغم من تسكيرهم ليقود ما توارثوه استطاعوا تجسيد الحزن والوحدة في ابدع قالب, وفي اغنية كانوا ياحبيبي كانت السمة المميزة للأغنية أنها كانت استكاتو أي لحن متقطع كالنقر,, ومع وجود موسيقى كموسيقى اللهو الراقص وايقاع مارش أي كالمستخدمة للخطوات العسكرية,, من الصعب بل من المستحيل أن يتخيل المستمع أن هذه الاغنية لها طابع الحزن والوحدة,, ولكن مع عبقرية الرحبانية لا مستحيل هناك,
من يستطيع الاتيان باللحظة الماضية,, والمجد لن يأتي في انتخابات الشجر المجرد من أوراق البارحة,, والمواويل كانت تندلع من فوهات الخصوبة,, عاصي رحباني,, رحل من البدايات والنهايات معا, وقدر لنا أن نحيا على ظلال ماضي العضماء لكنه عندما رحل لم يأخذ في تابوته باقي النغم,, راح عاصي وبقيت فيروز فماذا فعلت؟!


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved