هذا الحوار مع الدكتور عبدالعزيز المقالح، يتطرق الى أشياء عديدة شعرية، نقدية، مفاهيمية و غيرها في حياة ثرية، مركبة، هي حياة المقالح نافذة الآخر على اليمن، وكذلك العكس، هذا الحوار تم اختياره من حوار أطول أجرته مجلة الثقافة مع الشاعر الكبير، وذلك في عددها الاحتفائي به
معروف عنكم اهتماماتكم المتعددة، أين تجدون أنفسكم أكثر من هذه الاهتمامات، وهل الاهتمامات الثانوية أوالعرضية التي تقومون بها مثل الكتابة في الصحف السيارة اليومية أو الأسبوعية لا تؤثر على مجالات اهتماماتكم الأساسية، الشعر ، النقد، التأريخ للأدب
اعترف أنني لا أجد نفسي الا في الشعر ومع الشعر، القصيدة هي صوتي وصورتي، في القصيدة اشعر انني اتجول في مدينة اعرفها واحبها واحسن الدخول اليها والخروج منها واذا كان النقد قد ابعدني عن نفسي واخذ الكثير من وقتي وجهدي فإنه كان ضرورة للتعريف بالحركة الأدبية في بلادنا وهي حركة تعاني من الاهمال والتجاهل كما ان النزوع الى التواصل مع الناس من خلال الكتابات الصحفية أمر بالغ الأهمية وجدير بالاهتمام، كل المبدعين في العصر الحديث، شعراء، كتاب مسرح أو كتاب رواية وقصة يسعون دائماً الى التواصل مع الآخرين من خلال الصحافة، محاولة منهم لكسر حالات العزلة بين الكاتب والواقع من جهة، ونقل أفكارهم التي لا تستطيع الاعمال الابداعية نقلها، من جهة ثانية وفي هذه الأيام اشعر ان القصيدة وحدها لم تعد كافية للتنفس، وقد أجدني مشغولاً بكتابة الرواية
ديوان ·أبجدية الروح مغايرة لما ألفه القارىء من لغة وسياق فني وجملة شعرية، ومناخ نفسي وروحي، يرى فيه البعض مغامرة لاستعادة الروح ولبناء جدار سقف العمر الآتي، من أحجاره، كما يجد فيه البعض المفردة والرمز كحالة وعي وليس وجوداً، متى بدأ د عبدالعزيز يشعر باكتمال صورة ذاته في رحلة روحه الجديدة، وهل تعتقد انها كغيرها من المراحل، أم أنها ستترك برزخاً مع تجربة النص في شعرك ما قبل ·أبجدية الروح الذي تعود بعض قصائده لسنوات خلت؟
يقال ان الشاعر اسوأ من يتحدث عن اعماله الشعرية فهو اما ان يدفعه الغرور الى ان يبالغ في تقديرها، أو يدفعه التواضع الى التقليل من اهميتها، لهذا لن اتحدث عن ديوان ·ابجدية الروح وسأترك هذه المهمة للصديق الناقد الفيلسوف الاستاذ عبدالغفار مكاوي الذي يتحدث عن تجربة الديوان قائلاً ·هذه التجربة ومع تقدم العمر وازدياد الاحساس بعقم الانتظار وعبثية العيش في نفق الحرف المظلم هي بمثابة الانقاذ من الموت والضجر والفراغ، لهذا وجدتك كما كنت على الدوام تمس فيض النور في الأطفال والفقراء والمرضى واليتامى وفي العشب والنور والفراشات فغناؤك للروح يختلف كل الاختلاف عن شعراء الحب لأنه مسكون على الدوام بالحداثة والحلم الدائم الذي لا يمكن ان يتحطم أو ينهار
د عبدالعزيز نريد جواباً واضحاً ومحدداً، هل هناك حداثة متوازنة وحداثة غير متوازنة، ثم ماهي دلالة لفظة المتوازنة، هنا، لأنها تحمل معنى الاشارة الى توازن بين متناقضين، أو متضادين، يجب الحفاظ على الموازنة أو التوازن فيما بينها، مع ان رواد الحداثة في الشعر والثقافة يرون ان الحداثة هي لحظة ابتداء أو محو، لحظة قطع، أو هي وقفة مغايرة جذرية أو مطلقة مع السائد الساكن؟
نحن في عصر اختلال الموازين وانعدام التوازن، هكذا يقولون والحديث عن حداثة متوازنة يعني محاولة تفادي الاختلال في التوازن بين المبدع والمتلقي، ربما فهمت الأمر على هذا النحو علماً بأنني لم أقترب من هذا المصطلح ولم أتعامل معه، والحداثة عندي فضاء مفتوح بلا حدود، وكنت كتبت مرة عن أن الحداثة تعني القطيعة التامة مع القديم، واكتشفت خطئي وحاولت تصحيحه، فالقطيعة والانقطاع في مجال الأفكار كما في مجال الابداع امر مستحيل وقصيدة النثر أو القصيدة الأجدر على سبيل المثال لا تستطيع ان تكون انقطاعاً عن القديم او محواً وليست تأسيساً من العدم، وربما انسلخت عن قصيدة امرئ القيس، وعن قصيدة السياب، وصلاح عبد الصبور في أنها ترفض عنصراً واحداً من عناصر الشعر وهو الموسيقى، لكنها على اتصال وثيق بالموروث في عناصر أخرى، اللغة والصورة، وهي تولي الموروث الشعري من الاحترام ما لا توليه القصيدة البيتية او العمودية التي صارت في أحيان كثيرة وعند الشعراء التقليديين عبئاً على الموروث وتكراراً ومسخاً، والتواصل مع التراث ومع القديم لا يعني التواصل مع الأشكال وإلا كان كما سبقت الاشارة تكراراً وتقليداً، والذين يكتبون كالمتنبي هم لا يتواصلون معه وانما يكررون ويشوهون هذا الشاعر الكبير في عصره وفي عصرنا من خلال تقليد لغته واسلوبه وشكل قصيدته، وهؤلاء الذين يغيرون في شكل القصيدة وفي بنيتها الداخلية هم أكثر صلة بالشعراء المبدعين في كل العصور من هؤلاء الذين يقلدون ويمسخون، لا قطيعة اذن، واعترف ان مفهوم الحداثة في النقد الأدبي العربي المعاصر ما يزال غامضاً ملتبساً تتعدد فيه الاجتهادات والآراء
هل تسميتك ·لقصيدة النثر ·بالقصيدة الأجد محاولة للخروج من مأزق التناقض في التسمية الكلاسيكية الغربية؟
كما تستطيع الحداثة ان تؤسس مفاهيمها ورؤاها تستطيع كذلك أن تؤسس تسمياتها، وأزعم ان التسمية المناسبة لما يسمى بقصيدة النثر، هي تلك التسمية التي شاعت في بداية ظهور الشعر الجديد، وأعني بها الشعر الحر، ان هذا النوع من الشعر الهادف الى تحطيم البنية الخارجية القديمة للقصيدة العربية شكلاً وايقاعاً هو الشعر الحر بعينه وكل نص شعري يختار هذا الأسلوب هو قصيدة منزوعة الموسيقى، اقصد الموسيقى الصاخبة طبعاً، ومن قال ان ليس للنثر ايقاع، طه حسين في نثره الجميل له ايقاع وموسيقى يدركها القارىء المتمكن والدارس المتعمق، ونحن في قضايا الابداع وحتى الآن لا نناقش لكي نقترب من الحقائق وانما نميل الى الجدل والمهاترات، وقصيدة النثر هي قصيدة حرة، تحررت من القيود الخارجية للقصيدة الكلاسيكية وللقصيدة الجديدة ولها نظائر في التراث العربي، ولا تعتبر وافدة أو متسللة الى أدبنا وذوقنا، انها في مستوياتها الرفيعة جزء من ابداعنا المعاصر، والخطر عليها وعلينا وعلى الشعر من فاقدي الموهبة ومحدودي التجربة
يلمس العديد من المهتمين بالكتابة النقدية في اليمن ظاهرة احتفائك التعاطفي في استعراض وتناول الأعمال الشعرية الجديدة للشباب، تعاطف يغمر الأعمال الشعرية بالحب والتشجيع يأتي على حساب النقد وكأن المقدمات، أوا لقراءات النقدية تقوم بدور لاشهار اسم الشاعر الذي من الممكن ان يصبح شاعراً، وهو ما يعتقد البعض انه امر قد لا يساعد على نماء وتطور الموهبة وتحفيز روح الشعر، قدر ما يشحنها بالرضا والغرور المبكر، بل والموت قبل اكتمال الميلاد كيف ترون د عبدالعزيز على ذلك؟
اقدر هذا السؤال وقد انتظرته طويلاً لكي أقول بكل وضوح، ان هذا هو الموقف الذي اعتز به أكثر من أي شيء آخر، وقد اسعدني الحظ بأن كتبت عشرات المقدمات لشعراء كبار ولعدد من الموهوبين الناشئين الذين يجدون في كلمة التشجيع طوق نجاة يمكنهم من عبور المجرى الهائج الموصل الى مدينة الشعر، ودائماً تدركني حالة من الضعف تجاه الموهوبين الشباب، وهؤلاء الذين يتوقعون منا ان نمد اليهم يد العون لذلك لا استطيع ان ارد واحداً منهم أو ان اعتذر عن تقديمه واراه في أحايين كثيرة جزءاً من عملي الجامعي، ولم يحدث ان رأيت واحداً ممن قدمت لهم قد اصيب بالغرور أو الكبرياء بل على العكس، كلهم دون استثناء يلتزمون بالتواضع المبالغ فيه احياناً والمغرورون هم أولئك الذين يرفضون أن يقدم لهم واحد أو ينتقدهم احد، فقد اوهموا أنفسهم انهم ولدوا مكتملين ولا يحتاجون الى من يضيء لهم الطريق أو يدلهم عليه
هل أنت راضٍ عن النقد الذي يوجه الى أعمالك الشعرية، وهل تحس كشاعر ان النقد الذي يتعاطى مع نتاجك الشعري وصل الى روح القصيدة، وبالتالي اقترب من شيء مما هو في نفسك، أم هو يدور حول عموميات اطارك الشعري؟ وبصراحة في أي الأعمال أو المناهج النقدية تجد المعادل الفني الجمالي الموازي لانتاجك الشعري، وهل النقد الذي لا يتوافق مع رؤيتك النقدية والشعرية والموجه لأعمالك، يغضبك، أم يريحك أم أن الأمر سيان؟
لا أستطيع الا أن اكون راضيا، والدراسات التي تناولت ديواني أبجدية الروح الصادر في بداية هذا العامل، تشكل حتى الآن كتاباً كاملا، ولا أتردد عن القول بأن النقد الموضوعي المنصف الشجاع يريحني حتى لو كان سلبياً تجاه مااكتب والمشكلة هي في الناقد الفاقد الضمير الذي يسعى الى تحويل النقد الأدبي الى تصفية حساب مع المبدع كامل الابداع، مع شخص الكاتب لا مع النص المكتوب، وقد برزت الى الحياة الأدبية مناهج نقدية بالغة الأهمية تحاول تجاهل صاحب النص وتتجه بكل طاقاتها الى قراءة النص نفسه واستكشاف ابعاده الايجابية والسلبية، وهي عادة تسعى الى اكتشاف الجوانب الايجابية والتركيز عليها، فالناقد نحلة تبحث في الأشجار عن زهورها لا ذبابا يتبع مواطن العلل
في ضوء تجربتك الخاطئة مع النقد، من أين تبدأ قراءة النص؟
يختلف الأمر بالنسبة الي، فقد أبدأ من الضوء الخاطف الذي توحي به مفرداته وصوره، وقد أبدأ من صاحبه أو من الظروف التي ساعدت على ظهوره، وبالرغم من أن المحاضرة الأولى التي تلقيتها في مرحلة الدراسات العليا، بعد الجامعة كانت لاستاذ كبير وشغوف بالبنيوية وبموت المؤلف أوصاحب النص، فانني أفدت منه شيئاًوأفدت من الآخرين أشياء ورأيت في بعض المناهج النقدية تضييقاً على الناقد وحصراًله في دائرة لا يتعداها الى دائرة ودوائر أخرى
هناك ظاهرة عند بعض شعراء الحداثة، وهي اللجوء لكتابة القصيدة العمودية بماذا تفسر ذلك؟ هل هو تأكيد حضور أو تحد لعمود الشعر في ساحته، أم هو ملل الشاعر وحنينه الذي يعبر عن قوة حضور بنية الشعر القديم في وجداننا وثقافتنا، باعتبارها تعكس حقيقة حياتنا الواقعية التي تتسم بالثنائية والتوفيقية كيف تقيم هذه الحالة، مع أننا لا نشاهدها عندك او فيما تكتب أو ينشر لك؟
أعجزعن توصيف هذه الظاهرة، وقد يكون بعض هذه المحاولات طبيعياً وناتجاً عن شجن أو حنين الى استحضار هذا الشكل التراثي، وبعضها الآخر قد يكون تعبيراً عن الارتكاسة الشاملة التي تعاني منها الأفكار ارتداد في الانتماء الى المستقبل واحباط وهروب الى الماضي، وتحدي العمود كان مقبولاً في بداية التجربة الشعرية الحديثة عندما كان الشاعر الحديث متهماً بأن عجزه عن امتلاك نظام الكتابة الكلاسيكية هو السبب وراء اختياره للكتابة بالشكل الجديد